إيلون ماسك بين الريادة والفوضى: هل خرج أسلوب قيادته عن السيطرة؟
كان يُحتفى به ذات يوم كأديسون العصر الحديث، ذاك المبتكر المتمرد الذي أحدث ثورة في عالم السيارات والرحلات الفضائية، أما اليوم، فيجد إيلون ماسك نفسه تحت الأضواء مجدداً وإنما لأسباب مختلفة تماماً.
سلسلة من القرارات المفاجئة، والتصريحات المثيرة للجدل، وخفض التكاليف بشكل لافت، حولت إعجاب الجمهور إلى شك، وثقة المستثمرين إلى تردد، لتتحول إمبراطورية الابتكار إلى قصة من الفوضى والتراجع.
تمجيد أسطورة إيلون ماسك
لسنوات طويلة جسد ماسك الحلم، إذ مثل قائدًا بأفكار جريئة، واندفاع للتنفيذ لا يعرف التردد، فيما أعادت "تسلا Tesla" تعريف التنقل الكهربائي، في حين جعلت "سبيس اكس SpaceX" من الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام حقيقة، وأصبحت شخصية ماسك الجذابة بمثابة مغناطيس، يجذب المواهب والاهتمام الإعلامي ومليارات الدولارات من المستثمرين.
ولكن القوة نفسها التي صنعت النجاح، والمتمثلة بأسلوب القيادة الأحادي القائم على الحدس والقرارات الفردية المندفعة، كشفت عن تصدعات خطيرة، وقد وصف مقال نشرته مجلة "فوربس Forbes"، تحت عنوان: "كيف لا تقود التغيير التنظيمي مثل إيلون ماسك"، أسلوب ماسك بأنه "حوار من طرف واحد"، يستبعد النقاش ويهمش آراء من هم في الصفوف التنفيذية.
ولعل أشهر مثال على ذلك، قيامه بعد الإستحواذ على "توتير" (X حاليًا)، بفصل نصف القوى العاملة فجأة دون استشارة فريق العمل، ما أدى إلى انقطاعات الخدمة وخلل واسع النطاق.
تبني ماسك لثقافة الخوف!
ماسك يضع أهدافاً جريئة، ويطالب بالتنفيذ الفوري السريع، ولا يتردد في تحدي فرقه بشكل مباشر لدفعها إلى الأمام.
وكما يوضح موقع "ام تي دي تراينينغ MTD TRAINING" في مقال "شرح قيادة إيلون ماسك"، فإنه يدمج بين السيطرة الأوتوقراطية والابتكار المستمر، مما يخلق بيئات عمل سريعة الوتيرة، تشجع على المخاطرة، لكنها تبدي تسامحاً محدوداً مع الفشل، فهو يضع معايير عالية ويدمجها مع المقاربات العلمية، مع التركيز على السرعة والحسم، وما كان يعتبر "حباً قاسياً" أصبح من سمات ثقافات العمل السامة.
تقارير صحفية عديدة تحدثت عن توبيخ علني، وإدارة قائمة على الخوف، ومعدل دوران عالٍ للموظفين. “راكونتر Raconteur” وصفت أسلوب ماسك بأنه "إدارة قائمة على الخوف"، تحقق مكاسب قصيرة الأمد على حساب الروح المعنوية والابتكار.
ولفترة وجيزة، بدا الأسلوب المباشر هذا وكأنه يدفع بالفرق للعمل بجهد أكبر، ويخفض التكاليف بسرعة، ويسرع وصول المنتجات إلى الأسواق، لكن مع الوقت، حل الإرهاق محل الإبداع، والاستياء محل الولاء.
هل يتعرض ماسك للانهيار المالي؟
الأرقام تعكس التحول هذا، فثروة ماسك تقلصت بأكثر من 71 مليار دولار في عام 2025 وحده، وهو أكبر انخفاض سنوي بين أصحاب المليارات في العالم.
وإنخفض سعر "تسلا Tesla" بشكل حاد، وتعرض موديل "واي Y” الذي كان يوماً مفضلاً في أوروبا، لانخفاض بنسبة 43% في عمليات التسجيل.
والأسباب؟
منافسة أشد من شركات السيارات التقليدية والعلامات الجديدة في مجال السيارات الكهربائية، وتأخيرات إنتاج مرتبطة بالتسريحات المفاجئة، وتضرر صورة الشركة التي كانت في الماضي مرتبطة بالابتكار، وأصبحت اليوم مرتبطة بآراء مالكها المثيرة للجدل على مواقع التواصل الاجتماعي.
ماسك والفوضى التشغيلية
بعيداً عن الأرقام والميزانيات، وخارج قاعات الاجتماعات تفاقمت الفوضى داخل الشركات نفسها، وعلى سبيل المثال، بعد التسريح الجماعي في "توتير"، غادر مهندسون أساسيون، مما جعل المنصة عرضة لانقطاعات متكررة وأعطال.
وفي "تسلا Tesla"، أدت سياسات خفض التكاليف العدوانية إلى مشكلات في الجودة وتراجع الابتكار.
وهذه النتائج تثبت أن الجرأة بلا توزان يمكنها أن تؤدي إلى نتائج عكسية، خاصة عندما تأتي القرارات من القمة، دون الاستماع لآراء المتواجدين على الأرض.
اقرأ أيضًا: ماسك يفتح الباب أمام مساهمي تسلا: هل تستثمر الشركة في xAI؟
حياة ماسك الشخصية وصورته العامة
لطالما أثرت حياة إيلون ماسك الشخصية وصورته العامة على نظرة الجمهور إلى قيادته، وغالباً ما تبرز التغطية الإعلامية مظهره غير التقليدي وسلوكه المتقلب، والذي يفسره بعض المراقبين على أنه إما من علامات التوتر أو نتيجة لتعاطيه عقار ما.
بالإضافة إلى ذلك، يشتهر ماسك بإنجابه المستمر للأطفال من نساء مختلفات، حالياً هو أب لـ 14 طفلاً من أربع نساء، يضاف إلى ذلك المعارك القضائية مع نساء عديدات مرتبطات به، بالإضافة إلى قضايا تتمحور حول حضانة أبنائه والدعم المالي.
كل هذه العوامل، غذت التوجه الذي يقلل من إنجازاته، ويدعم السردية المتمحورة حول عدم استقراره كفرد، وعدم تواجده في بيئة مستقرة، وهذا التدقيق المكثف أثر سلباً على ثقة المستثمرين.
مغامرة إيلون ماسك السياسية
تبدو تبعات مغامرات إيلون ماسك السياسية كارثية، ولعلها عبرة لرجال الأعمال حول ضرورة ابتعادهم عن السياسة.
فدعمه للرئيس الأمريكي دونالد ترامب ثم خلافه معه جعله مكروهاً من المعسكرين، المؤيدين وغير المؤيدين لترامب، ومنصبه الاستشاري الذي أدى إلى اقتراحه لما يفضله في سياسته المهنية، كالتسريح الجماعي، خفض التكاليف بشكل ضخم، والإصلاحات الهيكلية الشاملة، قوبلت بالتخوف والقلق.
كل هذه العوامل زادت من الشكوك حول قيادته، وساهمت في تآكل شعبيه بشكل كبير، التي شهدت انخفاضا حاداً في عام 2025 ووصلت إلى أدنى مستوياتها، وفقاً لتقرير "فوربس"، الذي يستند إلى استطلاعات مجمعة أعدها الاحصائي "نيت سيلفر في سيلفر بولتين"، والتي جاء فيها أن 55% من الأمريكيين كونوا رأياً سلبيًا بسبب ما حصل مع ترامب، مقابل 37% تمسكوا برأيهم الايجابي تجاه ماسك.
ووفق استطلاع "مورنينيغ كونسالت Morning consult" في يونيو 2025، فقد جعلت مغامرة ماسك السياسية 82% ينظرون إليه بشكل سلبي.
أما استطلاعا "بيزنس انسايدر Business Insider" و"راسموسن ريبوتش Rasmussen reports"، فقد أظهرا أن التصريحات الاستفزازية ونشاطه على وسائل التواصل عمقت الشكوك العامة، وأضعفت جاذبيته الواسعة، ما جعل تقييمه الإيحابي في منتصف العام الحالي يتراوح بين 14 و28 نقطة، وهو أسوأ تقييماته المهنية حتى الآن.
هل يصلح أسلوب ماسك القيادي للعالم العربي؟
حتى في ظل انتكاساته الأخيرة، وتآكل أسطورته التي كانت تبدو غير قابلة للسقوط، لا يزال أسلوب ماسك القيادي الحازم، والذي يعتمد على الضغط الشديد، يثير اهتمام الأوساط الاقتصادية العالمية.
اقرأ أيضاً: "بيبي غروك".. خطوة غير متوقعة من إيلون ماسك نحو أطفال الذكاء الاصطناعي (فيديو)
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إن كان يمكن تطبيق هذا النهج القائم على السرعة والقرارات الأحادية والمواجهة المباشرة، في بيئات العمل العربية؟
أسلوب ماسك القيادي، الذي تحدثنا عنه، القائم على الأسلوب الأوتوقراطي -الذي يتسم بسيطرة الفرد على كل القرارات- والذي يركز على السرعة والنتائج الفورية وعدم التسامح مع الفشل، يختلف بشكل كبير عن القيادة في العالم العربي.
في العالم العربي، تقوم القيادة على أساس ثقافي مختلف بشكل كلي، وكما يشرح موقع "كروس كالتشر تو غو Cross Culture To Go" في مقال "القيادة في دول الخليج العربي"، فإن القيادة هرمية، تتسم بعلاقة "أبوية" في الوقت عينه، حيث ينظر إلى القادة كشخصيات سلطوية لا يتوقع منها إصدار الأوامر فحسب، بل رعاية فرق العمل وحمايتها.
هذا الرأي تدعمه روقة بحثية من جامعة "يورك سانت جون York Saint John"، تحت عنوان "القيادة في الخليج العربي"، والتي تتحدث عن التأثير الكبير للقيم القبلية والإسلامية على أساليب إدارة الشركات والمؤسسات، حيث يميل القادة إلى اتخاذ القرارات بعد التشاور والتوافق بدلاً من الأحادية في حسم القرارات.
دراسة أكاديمية منشورة على موقع "أكاديميا إي دي يو Academia edu"، بعنوان "أسلوب القيادة في الخليج"، تشير إلى أن القادة العرب يعطون أولوية لبناء العلاقات مع الموظفين وزيادة الثقة والولاء، مع اعتماد أساليب تواصل غير مباشرة ولطيفة، وعليه فإن القادة الذي ينجحون هم الذي يوازنون بين السلطة والتعاون، مع تعزيز الوئام الاجتماعي واتخاذ القرارات الاجتماعية.
وعليه فإن أسلوب ماسك الأحادي المتفرد بالقرارات والقائم على المواجهة المباشرة، قد ينظر إليه في العالم العربي على أنه ديكتاتوري، يفتقر الاحترام، وبالتالي يفقد الشخص احترام وولاء فرقه، ما يضعف بيئة العمل، ويؤثر سلباً على الإنتاجية والشركة ككل.
ماسك عند مفترق طرق: ما الذي يمكن تعلمه من سقوطه الحالي؟
ماسك حالياً يقف عن مفترق طرق، فهو ورغم التداعيات السلبية الكبيرة لانخراطه في الحياة السياسة، قرر المضي قدماً وتأسيس كيان سياسي جديد يسعى لأن يجعله الجهة الحاسمة للتشريعات المثيرة للجدل، وفي دولة كالولايات المتحدة هكذا خطوة تتطلب التزاماً وموارد طائلة طويلة الأمد.
في الوقت عينه تواجه إمبراطورتيه التجارية تحديات عديدة، من انخفاض في المبيعات، وتراجع صافي ثورته، وتآكل ثقة الجمهور.
فيما لا يمكن توقع خطواته التالية، لأنه بطبيعته شخص لا يمكن توقع ما قد يقدم عليه، ولكن ما هو مؤكد هو أنه ما زال لاعباً مؤثراً على رأس مؤسسات ضخمة، تؤثر على الاقتصاد الأمريكي والعالمي بشكل عام.
وفي المحصلة، مسيرة ماسك المهنية، وتحديداً الجزء الأحدث منها، تقدم دروساً مهمة للقادة والمنظمات، يمكن تلخصيها كالتالي:
- القيادة والرؤية تحتاج إلى توازن: الابتكار الجريء والطموح يجب أن يقابله ذكاء عاطفي وتعاطف، وإدارة قائمة على التعاون للحفاظ على النجاح على المدى الطويل.
- إدارة التغيير الشاملة ضرروه: القرارات الأحادية من أعلى إلى أسفل، مثل التسريحات الجماعية والتغييرات المفاجئة في السياسات، تزعزع إستقرار المؤسسات وتنفر أصحاب المصلحة الرئيسيين.
- الصورة العامة تؤثر على القيادة: سلوك القائد الشخصي، وصورته العامة ومواقفه تؤثر بشكل كبير على سمعة المؤسسة وثقة أصحاب المصلحة.
- القدرة على التكيف الثقافي أمر بالغ الأهمية: أساليب القيادة التي تنجح في سياق معين قد تفشل في سياقات أخرى ، لذا تعد مراعاة المعايير الثقافية والتنظيمية أمراً حاسماً.
- الاستدامة أهم من السرعة: قد يؤدي خفض التكاليف بشكل حاد والتوسع السريع دون دعم كاف إلى فوضى تشغيلية وتراجع المعنويات.
وأخيرًا فإن تجربة ماسك، بما تحمله من نجاحات مذهلة وإخفاقات مثيرة للجدل، من أكثر المسيرات استثنائية بعالم الأعمال في عصرنا الحديث، أما مصيرها، فيظل مرهوناً بما ستحمله السنوات المقبلة.
