الذكاء الاصطناعي في الرياضات الإلكترونية: هل يتحكّم بالمنافسة ويُفقدها متعتها؟
منذ التسعينيات، وربما أبعد من ذلك، والذكاء الاصطناعي يلعب دورًا محوريًا في عالم الألعاب. في البداية كان الأمر مُضحكًا، ثم مثيرًا للإعجاب، ثم جديرًا بالاحترام، وربما بالخوف! يمكننا القول إن وجود الذكاء الاصطناعي والعدم كانا سواء بالنسبة للبشر، حتى أتى عام 1997!
قبل ذلك العام، لم يحظَ الذكاء الاصطناعي بالاهتمام الذي يستحقه، لكن في الحادي عشر من مايو 1997، تغير كل شيء عندما تمكن الحاسوب "ديب بلو" -الذي طورته شركة IBM- من هزيمة أسطورة الشطرنج الخالدة جاري كاسباروف؛ كان هذا الحدث تاريخيًا لأنه أثبت أن الذكاء الاصطناعي قادر على هزيمة العقل البشري، وتلك كانت مجرد البداية!
اليوم نحن متصالحون مع هذه الحقيقة لدرجة أن البعض قد نسي كيف يستخدم عقله أساسًا وأصبح مُدمنًا على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، هذا ما تثبته الإحصائيات. فوفقًا لموقع Statista، وفي سياق الألعاب الذي سنتحدث عنه، فإن 46% من مطوري الألعاب حول العالم يستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي في عملهم. ووفقًا لنفس الموقع، فإن 31% قالوا إن شركاتهم تستخدم الذكاء الاصطناعي التوليدي (مثل ChatGPT) ليسرعوا من وتيرة الإنجاز.
صعود الرياضات الإلكترونية والحاجة إلى الذكاء الاصطناعي
لم يعد الذكاء الاصطناعي مقتصرًا على تطوير الألعاب فحسب، بل امتد ليشمل مجال الرياضات الإلكترونية، بعد أن ذاع صيتُها وأصبحت مهنةً حقيقية لكثيرٍ من المراهقين والبالغين. والمفارقة أنّ بعض الآباء الذين كانوا، قبل أعوام قليلة، يوبّخون أبناءهم على تضييع الوقت في اللعب، باتوا اليوم يشجّعونهم على الاستثمار فيه، طمعًا بأن يصبحوا من أبطال الـ eSports الذين يجنون آلاف الدولارات شهريًا.
مجموع جوائز بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية EWC (مثلًا)، التي تنظمها المملكة، يبلغ 27 مليون دولار. الفريق الأول في هذه البطولة يحصل على 7 ملايين دولار، والثاني على 4 ملايين، والثالث على 3 ملايين، وهذه أرقامٌ مُغرية ودافع قوي لأي لاعب لاستثمار وقته ومجهوده في لعبة معينة حتى يحترفها ويتربح منها.
من هذا المنطلق، بات نجاح اللاعبين في الرياضات الإلكترونية قائمًا على عوامل أخرى غير المهارة الفطرية وساعات اللعب الطويلة؛ بات يعتمد على أدوات وتقنيات يأتي الذكاء الاصطناعي في مقدمتها، فكيف أصبحت تدربنا الآلة في هذا المجال؟ وهل يفرض الذكاء الاصطناعي سطوته على مجريات اللعبة؟
كيف يُدرب الذكاء الاصطناعي لاعبي الـرياضات الإلكترونية؟
هناك أمثلة كثيرة يمكن أن تُجيب عن هذا السؤال، منها "Project AVA" الذي قدمته شركة Razer في معرض CES 2025 ووصفته بأنه "أقوى مساعد ذكاء اصطناعي للألعاب". يقدم هذا المشروع نصائح للاعبين في الوقت اللحظي؛ هذه النصائح مبنية على بيانات تم جمعها من أفضل المدربين واللاعبين على حدٍ سواء، بحيث تستطيع المنصة تحليل أداء المباراة أو الجولة -أو أيًّا كان المسمى- وهي قائمة تُعطي نصائح استراتيجية لتوقع حركات الخصم وتفاديها.
ولا يقف دور أداة "Project AVA" عند مرافقة اللاعبين في أثناء اللعب فحسب، حيث تساعد المنصة اللاعبين على تحليل أدائهم بعد الانتهاء من الجولة أو المباراة، بحيث تُعرّفهم بنقاط القوة ليتم العمل على تعزيزها وتنبههم إلى نقاط الضعف لتلافيها تمامًا.
وإذا استثنينا مشروع Razer من المشهد، سنرى أن هناك العديد من الأدوات والمنصات المساعدة الأخرى التي تعمل بالذكاء الاصطناعي لمساعدة اللاعبين. من أبرزها منصة Aimlabs، والتي تُعد واحدة من أشهر أدوات التدريب التي تُركز على صقل مهارتين أساسيتين في عالم الرياضات الإلكترونية هما التصويب الدقيق وسرعة رد الفعل، وهما عنصران محوريان لا تخلو منهما أي لعبة تنافسية.
ما الفرق بين المدرب البشري والآلي؟
على الرغم من أن المدرب البشري يمتلك حسًّا عاطفيًّا وقدرة على قراءة مشاعر لاعبيه والتعامل معها، وهو ما يُحدث فارقًا كبيرًا في لحظات الحسم، فإن الذكاء الاصطناعي يتفوق بشكلٍ واضح في جانب آخر لا يقل أهمية، وهو تحليل البيانات الضخمة. فبينما يواجه العقل البشري صعوبة في استيعاب هذا الكم الهائل من المعلومات، يستطيع الذكاء الاصطناعي تحليل ما يصل إلى 50 ألف نقطة بيانات في جولة واحدة فقط. في ألعاب مثل League of Legends وCounter-Strike مثلًا، يمكن للأنظمة الذكية تتبّع كل رصاصة، وكل خطوة، وتوقيت استخدام كل سلاح أو مهارة، مع مقارنة هذه البيانات بملايين المباريات السابقة المخزنة في أنظمتها لاستخلاص استراتيجيات وتكتيكات تُعزز من أداء الفرق بشكل غير مسبوق.
ولعلّ فريق Team Liquid يُجسد هذا التوجه بوضوح، حيث يتعاون مع شركات تقنية متخصصة في الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات اللعب الدقيقة. ولا يقتصر دور هذه الأنظمة على التحليل فقط، بل تشمل قدراتها أيضًا التنبؤ بنتائج المباريات، وتحديد الأخطاء المتكررة التي قد لا يلحظها اللاعب أو المدرب في ظل ضيق الوقت، وهو ما يمنح الفرق ميزة تنافسية واضحة عند التحضير للمباريات والبطولات الكبرى.
اقرأ أيضًا: كيف بدأت ألعاب الفيديو من المختبرات العلمية؟
ألا يمكن استخدام هذه الأنظمة في الغش؟
سؤالٌ مشروعٌ ومنطقي، ولقد حدثت بالفعل أكثر من حالة استخدم فيها لاعبون مشهورون أنظمةً ذكية للغش، مثل واقعة لاعب CS: GO العروف باسم "Forsaken" والذي استخدم برمجية غش خلال نهائيات بطولة eXTREMESLAND 2018، واللاعب الفرنسي KQLY الذي حام حوله الشك ليعترف بنفسه لاحقًا أنه استخدم أداة مساعدة أيضًا في CS: GO.
على الرغم من تطور هذه الحيل وقتها، فإنها اليوم لا شيء مقارنةً بتقنيات التعلم العميق والخوارزميات الذكية المخيفة. لهذا السبب، وعملًا بمقولة "لا يفل الحديد إلا الحديد"، أصبحت أنظمة مكافحة الغش المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضرورة لا غنى عنها في البطولات الرسمية وغير الرسمية.
تعمل هذه الأنظمة على مراقبة اللاعبين لحظةً بلحظة لترصد أي تصرفات غير طبيعية أثناء اللعب. كيف تعرف أن التصرفات غير طبيعية؟ بنفس الطريقة التي تبتكر بها استراتيجيات جديدة للعب؛ عن طريق تحليل كميات مهولة من البيانات التي تدربت عليها، والميزة الكُبرى هنا أن هذه الأنظمة تتعلم وتطور نفسها باستمرار، فحتى لو حاول الغشّاشون أن يبتكروا طرقًا جديدة للغش (حتى باستخدام الذكاء الاصطناعي نفسه)، فإن أنظمة مكافحة الغش تظل قادرة على التكيف وتسبقهم دائمًا بخطوة.
شركة مثل Tencent Games، على سبيل المثال، تمتلك فريقًا متخصصًا، يُعرف باسم ACE، يعمل على تطوير حلول ذكاء اصطناعي متقدمة لرصد الغش، ويركّز على تحليل سلوك اللاعبين لكشف أنماط يصعب على الإنسان العادي ملاحظتها.
دخول الذكاء الاصطناعي في مجال مكافحة الغش أحدث فرقًا كبيرًا في الحفاظ على نزاهة اللعب. شركات كبرى أخرى مثل Epic Games وValve لاحظت بالفعل انخفاضًا ملحوظًا في معدلات الغش في ألعاب شهيرة مثل Counter-Strike. أضف إلى ذلك أن هيبة بطولة مثل كأس العالم للرياضات الإلكترونية، جنبًا إلى جنب من خوف اللاعبين من الفضيحة وانتهاء مسيرتهم، يجعلهم يلتزمون بقواعد اللعب النزيه.
في النهاية، لم تعد مشكلة الغش هي المشكلة الأكبر في ساحة الألعاب الإلكترونية كما كان الأمر في السابق، بل أصبح القلق اليوم متعلقًا بتدخل الذكاء الاصطناعي الزائد عن اللزوم في كل جانب من جوانب الألعاب. فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي قد يجعل بعض الألعاب الإلكترونية أكثر متعةً بفضل ابتكاراته، فإنه قد ينزع بعض الألعاب الأخرى من روحها الأصلية كما فعل في كرة القدم الحديثة التي فقدت متعتها بسبب طغيان الإحصائيات على المهارات العفوية أو ما يُسمى بـ "كرة الشارع"، فهل يتكرر الأمر ذاته في عالم الـ eSports؟ الوقت وحده سيجيبنا عن ذلك.
