من الحواسيب الضخمة إلى الذكاء الاصطناعي: كيف غيّرت الحوسبة السحابية عالمنا؟
تُعد الحوسبة السحابية Cloud Computing من أهم التقنيات التي نعرفها، والتي تقوم عليها الكثير من المفاهيم والتطبيقات التقنية اليوم، فالفكرة وراء الخدمات السحابية تعتمد على استغلال الإنترنت، وتحديدًا السيرفرات، في تخزين البيانات ومعالجتها، بدلًا من الاعتماد على جهازك الشخصي وموارده.
هذه الفكرة مفيدة للغاية على مستويات قد لا تتخيلها، وأقرب تصور لها Google Drive، الذي يسمح لك بتخزين ما بدا لك من الملفات على سيرفرات جوجل، أو Google Docs، والذي يُمَكنك من استخدام برنامج Word -مجازًا- على الإنترنت بدلًا من تحمليه على جهازك، إلخ، وهي من الأمثلة التي نستفيد منها يوميًا دون أن ندري أنها تقوم على السحابة.
باختصار، كل شيء على الإنترنت قائم على السحابة؛ فيسبوك قائم على السحابة؛ واتساب قائم على السحابة؛ موقع الرجل قائم على السحابة، ولهذا فمن المهم أن نعرف أكثر عن هذا المُصطلح.
الحوسبة السحابية: التطورات التي يجب أن تعرفها
ظهر مصطلح "الحوسبة السحابية" للمرة الأولى في الخمسينيات، لوصف الخدمات المرتبطة بالإنترنت، ثم تطور مع الوقت ليصبح كما نعرفه اليوم.
وتوفر الشركات الكُبرى مثل أمازون، وجوجل، ومايكروسوفت العديد من الخدمات السحابية، التي تتيح للمستخدمين الوصول إلى مجموعة واسعة من الموارد على الإنترنت، لكن الأمر لم يُنجَز بين يومٍ وليلة.
الحوسبة المركزية:
يمكن إرجاع بداية الحوسبة السحابية إلى عام 1951، عندما ظهرت الحواسيب المركزية لأول مرة، وهي أجهزة قوية للغاية، الهدف الرئيس منها هو معالجة كميات هائلة من البيانات والمعلومات.
واليوم، تُستخدم هذه الحواسيب في مهام معقدة، مثل تنفيذ المعاملات الإلكترونية عبر الإنترنت، كما تتميز بأنها لا تتوقف عن العمل، وإذا حدث، فإن هذا يكون استثناءً، وسرعان ما يعود النظام للعمل دون أدنى مشكلة، باستثناء التكلفة العالية بالطبع.
الأنظمة الموزَّعة:
في بداية السبعينيات ظهر ما يُسمى بـ"الأنظمة الموزَّعة Distributed Systems"، وهي مجموعة من الأنظمة المستقلة التي تعمل معًا وكأنها نظام أو كيان رئيس واحد.
والهدف من هذه الأنظمة هو مشاركة الموارد والاستفادة منها بكفاءة عالية، وما يميزها أنها قابلة للتوسعة، ويمكن تشغيلها بشكل متزامن، بحيث تُنفذ عدة عمليات في الوقت نفسه، كما أنها تعمل دون توقف، وتعطّل جزء منها لا يؤثر على بقية النظام.
ولعل مشكلة هذه الأنظمة فقط أن جميع الأجهزة يجب أن تكون موجودة في نفس الموقع الجغرافي، ما يحد من المرونة بشكل واضح، وأيضًا كانت هناك مشكلة التكلفة، لكنها لم تكن بنفس درجة المشكلة الأولى.
الحوسبة المتكتلة والشبكية:
لحل مشكلة الأنظمة الموزعة، ظهرت محاولات تمثلت فيما يُسمى بـ"الحوسبة المتكتلة" أو "الحوسبة العنقودية" أو "Cluster Computing" في الثمانينيات؛ في هذا النظام، يتم توصيل مجموعة من الحواسيب عبر شبكة ذات سرعة عالية، وبتكلفة أقل، وهنا حُلَّت مشكلة التكلفة التي كانت موجودة في الأنظمة الموزعة، لكن مشكلة الموقع الجغرافي بقيت قائمة.
وفي التسعينيات، ظهر مفهوم أو نظام جديد سيحل مشكلة الموقع الجغرافي وهو "الحوسبة الشبكية Grid Computing"، فعلى عكس الحوسبة المتكتلة، لم تكن الأجهزة في هذا النظام مِلكًا لكيان أو شركة واحدة، بل إلى منظمات مختلفة.
لكن، على الرغم من المشكلات التي حلّها هذا النظام، فإنه كان مصحوبًا بتحديات أكبر، مثل انخفاض سرعة الاتصال بسبب بُعد المسافة، بالإضافة إلى مشكلات أخرى تتعلق بالشبكات نفسها، ونحن نتحدث عن الفترة ما بين عامي 1990 و2000.
في نفس تلك الفترة، ظهر ما يُسمى بـ"الحوسبة الخدمية" أو "الحوسبة حسب الطلب" أو "Utility Computing"، وهو نموذج يتيح توفير الخدمات التقنية مثل قدرات المعالجة، والتخزين، والبنية التحتية، وفقًا لنظام الدفع مقابل الاستخدام، الذي يعتمد عليه الكثير منّا اليوم، وفكرته باختصار أنك كمستخدمٍ عادي، لن تحتاج إلى شراء أجهزة أو برامج مُكلفة؛ كل ما سيتعين عليك فعله هو دفع مبلغ من المال نظير استهلاك الخدمة، وما تتطلبه الشركة بالضرورة نظير استهلاك للموارد.
التحولات الكبرى في عالم الحوسبة السحابية
المحاكاة الافتراضية:
منذ نحو 40 عامًا، ظهرت تقنية المحاكاة الافتراضية Virtualization، التي تسمح بإنشاء نظام وهمي أو افتراضي يتيح تشغيل عدة أنظمة أو تطبيقات في وقتٍ واحد على نفس الجهاز، وتُعتبر هذه التقنية الأساس الذي تعتمد عليه الحوسبة السحابية، حيث لا يمكن لمواقع مثل Amazon أن تقوم بدونه.
الويب 2.0:
من التحولات الكُبرى أيضًا في "تكنولوجيا السحاب" -كما يُحب أن يُطلق البعض عليها- دخول عصر "الويب 2.0"، وهو الوسيط الأساسي الذي يربط بين خدمات الحوسبة السحابية والمستخدمين، وبفضله، أصبحت صفحات الإنترنت تفاعلية بعد أن كان المستخدمون يكتفون بتصفح المحتوى فقط دون التفاعل معه.
لهذا، فإن أحد أهم مميزات "الويب 2.0" هو زيادة مرونة الإنترنت ومواقعه إن صح الوصف، مما مهد الطريق لظهور مواقع التواصل الاجتماعي والخدمات التي لا يمكننا أن نعيش اليوم بدونها.
التوجه الخدمي:
أخذت الحوسبة السحابية تتطور إلى أن وصلت إلى النموذج أو توجه خدمي Service Orientation، حثَّ على تطوير تطبيقات مرنة ومنخفضة التكلفة، وفي هذا النموذج تم تقديم مفهومين أساسيين؛ مفهوم "جودة الخدمة Quality of Service"، وهو عبارة عن مجموعة من المعايير التي تضمن أداء الخدمات السحابية بشكلٍ موثوق، ومفهوم "البرمجيات كخدمة Software as a Service"، وهو أسلوب يتيح للمستخدمين تشغيل البرامج والتطبيقات مباشرة على الإنترنت، دون الحاجة إلى تثبيتها على أجهزتهم كما شرحنا.
اقرأ أيضًا: ما هي الحوسبة الكمومية وكيف ستغير مستقبل التكنولوجيا؟
كيف تطورت الحوسبة السحابية وتغيرت في السنوات الأخيرة؟
هناك العديد من الشركات المعروفة في مجال الحوسبة السحابية، غير أن أبرزها، ومن روّادها، هي شركة أمازون، التي أطلقت "أمازون ويب سيرفيسز AWS" في عام 2006، لتكون أول مزوّد رئيس للخدمات السحابية.
وقبل ظهور هذه الشركة العملاقة وخدماتها الرائدة، كان من الصعب التصور أننا سنصل إلى هذه المرحلة أساسًا، إذ لم تكن الشركات تمتلك مراكز بيانات خاصة بها، وإنما كانت تعتمد على شركات أخرى تشترك معها في استخدام الحواسيب المركزية القوية التي تحدثنها عنها، وبالتالي تُقسَّم التكاليف.
لكن مع ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية PCs وشيوعها، بات بإمكان الشركات أخيرًا أن تمتلك أجهزتها الخاصة، وهذا ما أدى إلى ظهور مراكز البيانات الحديثة التي نعرفها اليوم.
بحلول عام 1999، قامت شركة VMWare بتطوير تقنيات الأنظمة الافتراضية -التي تحدثنا عنها أيضًا- حتى يتسنى للشركات والأفراد تشغيل عدة أنظمة على جهازٍ واحد، مما مهد الطريق للحوسبة السحابية التي نعرفها اليوم.
بعد AWS، قدّمت جوجل نظامًا أتاح للمطورين بناء التطبيقات دون الحاجة إلى إدارة البنية التحتية، وذلك في عام 2008، وفي عام 2010، دخلت مايكروسوفت المجال بإطلاق خدمة Azure لتنافس AWS، مع التركيز على حلول الشركات.
أما في 2012، فأطلقت جوجل خدمتها الشهيرة Google Drive، لتسمح للأفراد والشركات بتخزين الملفات ومشاركتها عبر الإنترنت، مما عزز الابتكارات السحابية.
ووصل الأمر اليوم إلى أن الشركات أصبحت تعتمد على أكثر من مزود سحابي لتحسين الأداء وتقليل التكاليف؛ والمشكلة لم تعد في التكاليف وفي كيفية توفير الخدمات، بقدر أمان السحابة وتقديم خدمات متطورة مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وبعد أن كانت الحوسبة السحابية تقتصر على الشركات وتحتاج لموارد ضخمة جدًا، أصبحت في متناول الجميع.
مستقبل الحوسبة السحابية: من الاتجاهات إلى التطبيقات
تطورت الخدمات السحابية كثيرًا مقارنةً بما كانت عليه، ومن المتوقع أن يستمر هذا التطور، ونرى الاتجاهات الآتية تشيع أكثر فأكثر:
1. الحوسبة الطرفية Edge computing:
المقصود بالحوسبة الطرفية أو حوسبة الحافة معالجة البيانات بالقرب من المكان الذي تنشأ فيه، بدلًا من إرسالها إلى سيرفر مركزي، وذلك لتسريع العملية وجعلها أكثر كفاءة، لا سيما في التطبيقات التي تتطلب استجابة فورية، مثل السيارات ذاتية القيادة والأجهزة الذكية.
لتفهم الأمر بكل سهولة؛ تخيل أنك تلعب لعبة باتل رويال، وتمتلك أفضل عتاد يمكنك امتلاكه، لكن الإنترنت لديك بطيء لأنك في مكان جغرافي بعيد عن السيرفرات الرئيسية، في المقابل، يمتلك خصومًا عتادًا متوسطًا، لكن الإنترنت لديهم سريع لوجودهم في موقع جغرافي ممتاز، في هذه الحالة سيستطيعون هزيمتك بكل سهولة، لأن التأخير Latency في استجابة الإنترنت لديك سيكون أعلى، أي أنهم سيرون تحركاتك قبل أن تراهم.
اقرأ أيضًا: الحوسبة السحابية.. بوابة تعزيز القدرات التنافسيّة والابتكار للشركات
2. الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة:
جميعنا نعرف مدى رواج هذين المجالين في الوقت الراهن، وبالفعل، بدأت منصات السحابة تضم أدوات للذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، ومن المتوقع أن تصبح هذه الأدوات أكثر تكاملًا في المستقبل، وسيسمح ذلك للشركات بأتمتة المهام واتخاذ قرارات أكثر ذكاءً، وتقديم تجارب أفضل للعملاء، دون الحاجة لبناء أنظمة ذكاء اصطناعي من البداية.
3. الحوسبة دون خوادم:
ربما التسمية مُضللة قليلًا، لأن الحوسبة غير ممكنة فعليًا دون خوادم، لكن المقصود بـ"الحوسبة بدون خوادم Serverless Computing" أن تقوم الشركات باستضافة تطبيقاتها وخدماتها لدى شركات أو مزودين آخرين، وذلك لتلافي شراء وصيانة وإدارة الخوادم الفعلية أو الافتراضية.
هذا يعني أن البنية التحتية الأساسية تصبح غير مرئية إلى حد كبير للمستخدمين، حيث يتم توفير الموارد تلقائيًا حسب الحاجة، ويتم تحصيل الرسوم بناءً على الاستخدام الفعلي فقط، ومن ثم، يمكن للشركات التركيز بشكل كامل على تطوير ونشر تطبيقاتها دون الحاجة إلى تخصيص موارد كبيرة لإدارة البنية التحتية المعقدة.
وبالنسبة للمطورين، يمثل هذا النموذج تحولًا كبيرًا في طريقة عملهم، فبدلًا من قضاء الوقت في إعداد السيرفرات وتحديثها، يمكنهم التركيز بشكل كامل على كتابة الكود الخاص بتطبيقهم وحل المشكلات البرمجية، مما يؤدي إلى تسريع دورات التطوير وتقليل التعقيد، حيث يصبح المطورون أكثر إنتاجية وقدرة على تقديم قيمة أكبر للشركة.
بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما توفر خدمات الحوسبة بدون خوادم أدوات وخدمات متكاملة تسهل عملية التطوير والنشر والمراقبة، مما يجعل بناء تطبيقات قابلة للتوسع ومرنة أسهل وأسرع.
4. الاستدامة والحوسبة الخضراء:
مع تزايد القلق بشأن تأثير التكنولوجيا على البيئة، ستعمل شركات الحوسبة السحابية على تقليل استهلاك الطاقة الضارة، واستخدام مصادر طاقة نظيفة مثل الطاقة الشمسية والرياح، وهذا يعني أن مراكز البيانات، التي تخزن وتعالج كميات هائلة من المعلومات، ستصبح أكثر كفاءة وأقل استهلاكًا للكهرباء التقليدية التي تضر بالبيئة.
وبفضل هذه التغييرات، ستتمكن الشركات التي تعتمد على الخدمات السحابية من تقليل تأثيرها السلبي على البيئة، حيث ستقلل من انبعاثات الكربون، التي تسبب التلوث والاحتباس الحراري.
كما أن بعض مزودي الخدمات السحابية سيقدمون حلولًا موفرة للطاقة، مما يساعد الشركات على اختيار خدمات تقنية متطورة، دون الإضرار بالكوكب.
بمعنى آخر، وختامًا لهذا التقرير، فإن المستقبل السحابي لن يكون فقط أسرع وأذكى، بل سيكون أيضًا أكثر صداقة للبيئة، كما يُفتَرض، مما يجعل التكنولوجيا جزءًا من الحل بدلاً من أن تكون جزءًا من المشكلة.
