هل اقتربنا من صنع دماغ إلكتروني؟ خلية عصبية ثورية تغيّر مستقبل الحوسبة
في ظل النمو المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي وما يصاحبه من زيادة ضخمة في استهلاك الطاقة، يسعى العلماء إلى تطوير أنظمة أكثر استدامة وكفاءة، ومن هذا المنطلق، نجح فريق بحثي دولي في تصميم خلية عصبية اصطناعية تُجسد عمليات الدماغ الكهروكيميائية بشكل فيزيائي مباشر، في خطوة قد تمهد لجيل جديد من الحواسيب المستوحاة من الدماغ البشري.
يعتمد هذا الابتكار، الذي توصل إليه باحثون من قسم الهندسة الكهربائية والحاسوبية بجامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية، على حركة الأيونات داخل مواد خاصة بدلًا من الإلكترونات، كما هو الحال في الدوائر التقليدية، وبذلك، تُقلّد الخلية الجديدة بدقة ديناميكيات الإشارات العصبية في الدماغ، وهو ما يجعلها أكثر كفاءة من الناحية الطاقية بمئات المرات، مقارنة بالرقائق الإلكترونية الحالية.
الخلايا العصبية الاصطناعية الجديدة
يُذكر أن الدماغ البشري يُنفذ عمليات معقدة مثل التعلم والتعرف على الأنماط بطاقة لا تتجاوز 20 واط فقط، وهي القدرة نفسها التي يستهلكها مصباح صغير، في المقابل، تحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة إلى طاقة تعادل استهلاك مدن بأكملها.
من هنا، تركز أبحاث "الحوسبة العصبية الشكلية Neuromorphic Computing" على تصميم دوائر تحاكي آلية عمل الخلايا العصبية، لتقريب الذكاء الاصطناعي من كفاءة الدماغ الطبيعي، لكن معظم المحاولات السابقة كانت تعتمد على الخوارزميات الرقمية التقليدية، بينما سعى هذا البحث الجديد إلى إعادة إنتاج الفيزياء الحيوية ذاتها للخلية العصبية.
تتألف الخلية العصبية الاصطناعية من ثلاثة مكونات فقط: مقاومة ذاكرية، وترانزستور، ومقاوم، وهذا التصميم البسيط يسمح للجهاز باحتلال مساحة توازي مساحة ترانزستور واحد فقط، في حين تتطلب الدوائر العصبية التقليدية عشرات أو مئات الترانزستورات.
وعوضًا عن تدفق الإلكترونات، يتحكم النظام في حركة أيونات الفضة داخل طبقة من الأكسيد، وعند تطبيق جهد كهربائي، تنتقل هذه الأيونات لتُشكل قناة موصلة تُنتج نبضة كهربائية تشبه "الإطلاق العصبي" في الدماغ، وهذا السلوك التناظري الدقيق يُعيد محاكاة خصائص الدماغ في التعلم الذاتي وتعديل الاتصالات العصبية.

مستقبل رقائق الذكاء المستوحاة من الدماغ
أثبت الباحثون أن الخلية العصبية الجديدة قادرة على تقليد ست خصائص أساسية للخلية العصبية البيولوجية، منها:
- التكامل المتسرب، أي تراكم الإشارات مع مرور الوقت.
- الإطلاق العتبي بعد تجاوز مستوى معين من التنبيه.
- الانتشار المتتالي للإشارات بين الخلايا.
- المرونة الذاتية، أي التأثر بالنشاط السابق.
- الفترة المقاومة بعد الإطلاق لمنع الإفراط في التنشيط.
- العشوائية في إطلاق النبضات، وهي سمة رئيسية في عمل الدماغ الطبيعي.
وعند اختبارها في نموذج شبكي، أظهرت الخلايا الجديدة قدرة تصنيف بلغت 91.35% عند تحليل الأرقام المنطوقة، وهو إنجاز يثبت إمكان دمجها في أنظمة ذكاء اصطناعي عصبية متقدمة.
اقرأ أيضا: باحثون يطوّرون خلايا قاتلة طبيعية قادرة على محاربة السرطان دون رفضها من الجسم
ورغم النتائج المبهرة، لا يزال أمام المشروع تحديات عملية، أبرزها إدماج الفضة، وهي المادة المستخدمة حاليًا، في عمليات تصنيع الرقائق القياسية، ويسعى الباحثون إلى استبدالها بمواد أكثر توافقًا مع البنية الصناعية لأشباه الموصلات.
فيما تتمثل الخطوة التالية في بناء شبكة كبيرة من هذه الخلايا العصبية الاصطناعية، لاختبار قدرتها الجماعية على محاكاة عمليات الدماغ البشرية، ما قد يفتح الباب أمام ذكاء اصطناعي يعمل بطاقة منخفضة، ويقترب من التفكير البشري الحقيقي.
وقال أحد الباحثين المشاركين في الدراسة "نحن نعيد التفكير في كيفية معالجة الآلات للمعلومات، المستقبل ليس في خوارزميات أسرع، بل في فيزياء أقرب إلى الدماغ".
