الإدارة التفصيلية.. كيف تضر التفكير الإبداعي بمؤسستك؟
في عالم الأعمال المعاصر، يعتبر الابداع والابتكار من أهم العوامل التي تؤثر على نجاح الشركات وتطورها، ورغم ذلك، تعاني غالبية الشركات من أسلوب إدارة يعيق هذه العملية الإبداعية، ويقتلها بشكل تدريجي، وهو الأسلوب الذي يوصف بـ"الإدارة التفصيلية" Micromanagement.
ويتلخص في لجوء القادة إلى محاولة التحكم بكل شيء، في مقاربة هي الأسرع لقتل الروح الإبداعية، وتحويل مكان العمل إلى بيئة سامة، ما يؤثر على الشركة ككل.
الإدارة الجزئية
الإدارة التفصيلية أو الدقيقة أو الجزئية Micromangement، هي أسلوب إداري يتميز بالتدخل المفرط في أعمال الموظفين، بحيث يراقب المدير كل جوانب المهام بشكل دقيق، ويقوم باتخاذ القرارات عنهم، مع تقديم الملاحظات السلبية والانتقادات بشكل دائم، والأسلوب هذا يركز على التفاصيل بدلاً من الأهداف أو النتائج الأكبر، ما يؤدي إلى انخفاض معدلات رضا الموظفين، وانعدام استقلاليتهم، بما ينعكس على الكفاءة العامة بشكل عام.
وعلى الرغم من أن الهدف قد يكون ضمان جودة العمل، لكن المقاربة نتائجها سلبية سواء للموظفين أو للشركات، ففي دراسة إحصائية أجرتها "تريني سوليوشنز Trinity Solutions"، تبين أن 79% من المشاركين في الدراسة اختبروا "الإدارة التفصيلية"، 69% قالوا بأنهم يفكرون في تغيير وظائفهم بسبب هذا النوع من الإدارة، 36% غيروا وظائفهم بالفعل، 71% قالوا إن الإدارة التفصيلية أفسدت أداءهم الوظيفي، و85% أكدوا أن معنوياتهم تأثرت بشكل سلبي بسببها.
من هو المدير التفصيلي؟
ما الذي يجعل الشخص يصبح مديراً تفصيلياً؟ هل هي سياسة الشركة أم هناك سمات شخصية تجعل الشخص أكثر ميلاً لهذا الأسلوب؟
في الواقع الشركات لها دورها، ولكن التأثير الأكبر هو للسمات الشخصية العامة للقادة، والتي تجعلهم يعتمدون هذا الأسلوب من الادارة، فمثلًا:
- المثاليون الذين يملكون معايير عالية ويهابون الأخطاء والفشل، يمارسون الادارة الدقيقة لضمان النتائج المثالية.
- الشخصيات المتحكمة التي تحتاج لفرض سيطرتها للحفاظ على التراتبية، غالباً ما تختبر مشاعر القلق والتوتر حين لا تتم الأمور كما يريدون.
- المدير عديم الخبرة أو غير المؤهل أو الذي عين في منصبه حديثاً، هؤلاء يفتقرون الثقة بمهاراتهم أو يحتاجون لإثبات أنفسهم، ومن ثم يراقبون كل شيء عن كثب.
وبناء على ذلك فإن الشخصيات من النوع الأول، طموحون، متحكمون، عديمو الصبر وشديدو التنافس، وهؤلاء يريدون انجاز المهام بسرعة وبنتائج مثالية.
أما الشخصيات المهووسة بالتفاصيل فلا يمكنهم رؤية الصورة كاملة، وبالتالي فإن الادارة التفصيلية ضرورية للنجاح في نظرهم.
والسؤال الهام الذي يتمحور حول الدور الذي تلعبه الشركات في هذه المعضلة، فالشركات يمكنها دفع مدير غير تفصيلي ليصبح "تفصيلياً"، خصوصاً حين تملك الشركة معايير صارمة للنجاح، وتطلب تقارير منتظمة، ما يجعل المدير يشعر بضرورة مراقبة كل شيء عن كثب.
في المقابل فإن ثقافة عدم الثقة في الشركة تدفع بهذا الاتجاه، بالإضافة إلى التوجيهات الهرمية الصارمة والضغوط الزمنية والمالية.
هكذا تخنق الإدارة التفصيلية الإبداع
بطبيعة الحال، وعندما يتم الإشراف على كل شيء، فإن المهام سيتم إنجازها بالمقاربة نفسها، وبأسلوب واحد، ما يجعلها جميعها متشابهة.
تخيلوا مثلاً مصمم جرافيك يتم إبلاغه بشكل دائم بكيفية القيام بعمله، بالإضافة إلى التدخل بكل التفاصيل الدقيقة، كالألوان وحجم الخط، ومن ثم فإن سلب الهامش الإبداعي منه سيمنعه من تجربة أساليب أو مفاهيم جديدة، وسيتحول إلى "منفذ" للتعليمات، وبالتالي ستكون النتائج تقليدية غير ملهمة، ترزح تحت سلبيات منها:
- تحد من الاستقلالية: يزدهر الإبداع عندما يتمتع الأفراد بحرية استكشاف الأفكار والتجربة، ولكن عندما يقوم المدير بتقييد هذه الحرية بتحديد كيفية تنفيذ المهام، فإنه يمنع الموظفين من التفكير خارج الصندوق أو تجربة أساليب جديدة، وعليه يصبح الموظف أشبه بالتابع السلبي، بدلاً من كونه مساهماً نشطاً في العملية الإبداعية.
- تثبط المخاطرة: الإبداع يتطلب المخاطرة وتجربة الأفكار غير التقليدية، ولكن بما أن المدير التفصيلي يميل لتجنب الأخطاء من خلال السيطرة على كل شيء، فحينها سيتجنب أي موظف تقديم أفكار جديدة، وسيلتزمون بالأساليب الآمنة والمتوقعة.
- تقلل من الحافز والانخراط: المراقبة المستمرة وعدم الثقة بالموظفين وقدراتهم، تجعلهم يشعرون بعدم التقدير، وعندما يشعر الموظف بأنه مجرد أداة ومساهماته لا أهمية لها، فلن يجد الحافز لبذل أي جهد إضافي، كما أن مشاعر الإحباط وعدم الرضا تؤدي لتراجع معدلات الشغف والطاقة، وهذه العوامل أساسية جداً في أي عملية إبداعية.
- تقيد التعاون وتبادل الأفكار: الادارة التفصيلية تخلق بيئة تقوم على التوتر، وهذا يجعل الموظف يتردد قبل مشاركة الأفكار بشكل مفتوح، وكما هو معروف، فإن الإبداع يزدهر في البيئات التعاونية التي تشجع وجهات النطر المتنوعة، وليس في بيئات تكون فيها فرق العمل معزولة.
- تركز على العملية وليس النتائج: المدير التفصيلي يركز على كيفية تنفيذ المهام بدلاً من النتائج، والتركيز الصارم هذا يمنع الموظفين من إيجاد طرق إبداعية أو أكثر كفاءة لتحقيق الأهداف، وهكذا يصبح الشغل الشاغل للموظفين اتباع التعليمات عوضًا عن التفكير بشكل إبداعي.
- تهدر الوقت والطاقة وتقوض الثقة: هي رسالة واضحة مفادها بأن الادارة لا تؤمن بأن الموظفين يمكنهم القيام بمهامهم من دون إشراف دقيق، وهذا يؤدي إلى أجواء سلبية قائمة على عدم الثقة.
ولأن الادارة التفصيلية تتطلب اجتماعات متكررة، وتفقد مستمر وتعديلات دائمة، فإن ذلك يستنزف الوقت والطاقة اللذين كان بالامكان استغلالهما في التفكير الابداعي وحل المشكلات.
اقرأ أيضًا: قيادة الشركة خلال الأزمات: نصائح لتجنب فخ "إغراء الإدارة"
أساليب الإدارة الحديثة
بطبيعة الحال، فإن مراقبة عمل الموظفين أمر أساسي، ولكن السيطرة تخلق بيئة سامة، تؤثر سلباً على فرق العمل وعلى المؤسسة ككل، ولكن هناك أساليب قيادة بديلة، توازن بين الاستقلالية والقدرة على التفكير الإبداعي وبين الرقابة، ومنها:
- نمط الادارة الديموقراطي: يتضمن إشراك الموظفين في عملية صنع القرار، مع الحفاظ على الرقابة والسيطرة، فالمدير يطلب رأي الموظفين وافكارهم، ما يسمح بالتفكير الإبداعي من دون حدود، ومع ذلك يبقى القرار النهائي للمدير، ولا يتم استنزاف الطاقة والوقت، ما يمكنه من التركيز على الصورة كاملة، والموظفون هنا يشعرون بالتقدير، وبأنه يتم الإستماع إليهم، ما يعزز الروح المعنوية، ويشجع على التفكير الإبداعي، وهذا النمط مثالي للفرق التي تزدهر من خلال التعاون والابتكار.
- نمط الادارة التحويلي: يعتمد على قيام المدير بإلهام الموظفين وتحفيزهم، لتحقيق إمكاناتهم الكاملة، بحيث تستخدم المراقبة لضمان تناسب الأهداف الفردية مع الرؤية التنظيمية، والتركيز هنا يكون على التمكين والابتكار وليس التحكم، بحيث يتم تشجع الموظفين على التفكير بشكل ابداعي وتحمل المسؤوليات.
- الإدارة القائمة على التدريب: المديرون هنا يعملون كمدربين، يوجهون الموظفين لتطوير مهاراتهم، وتستخدم المراقبة لتقديم الملاحظات البناءة، مع التركيز على التطوير وليس التحكم، وهذا النمط مثالي للفرق ذات الخبرة المتواضعة، أو تلك التي تسعى لتطوير مهاراتها.
- الإدارة الكلية Macromanagement : هي النقيض للإدارة التفصيلية، وتعتمد نهجاً أكثر انفتاحاً، يحافظ على قنوات الاتصال المفتوحة مع فرق العمل، وتسمح للموظفين بالعمل بشكل مستقل، مع رقابة أقل، بحيث يبقى المدير على اطلاع بتفاصيل العمل، من دون التدخل المفرط به.
