كيف تطور اليوم الوطني السعودي ليصبح احتفالاً شاملاً بالإنجازات والهوية؟
في 23 سبتمبر من كل عام تُضاء سماء المملكة العربية السعودية بألوان الفخر والاعتزاز، ويعلو نداء "الوطن أولاً" في الشوارع والساحات والمنازل.
ولا يكتفي هذا اليوم بكونه تذكارًا لحدث تاريخي مجيد فحسب، إذ تحول عبر عقود إلى مناسبة تعكس رحلة تحول المجتمع السعودي الشاملة، وتقديم رواية فريدة، تتقاطع فيها الذاكرة الوطنية مع الطموح الذي لا تحده حدود، والمشاريع المستقبلية، التي تأبى إلا أن تضع المملكة في الصدارة، في كل المجالات.
واليوم نستعرض كيف وُلد اليوم الوطني، وما الذي تغير في مظاهر الاحتفال عبر الزمن، وما أثره الاجتماعي والاقتصادي والثقافي على المجتمع السعودي.
السعودية.. ميلاد الدولة الحديثة
قصة اليوم الوطني متجذّرة في ملحمة توحيد الدولة بقيادة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، بعد استرداد الرياض عام 1319هـ (1902م) وانطلاق حملات ضمّ المناطق في نجد والحجاز ومختلف أنحاء شبه الجزيرة، إذ عمِل المؤسس على إنشاء كيان موحّد، حتى صدر في 17 جمادى الأولى 1351هـ مرسوم بتوحيد الدولة تحت اسم "المملكة العربية السعودية".
واختير يوم 21 جمادى الأولى من ذلك العام (الموافق 23 سبتمبر 1932م) ليُعلَن قيام المملكة باسمها الجديد، وهذا التاريخ هو عماد الاحتفال الوطني الذي تتجدد ذكراه كل عام.
وتشكّل سيرة الملك عبدالعزيز ذاتها حجر الأساس لفهم الملف الوطني: فقد نشأ في الرياض، وتربّى على قيم الفروسية، وتصف سجلات السيرة كيف أن رحلاته وقيادته العسكرية وسياسته الذكية في التحالفات المحلية، كانت السبب في تأسيس دولة حديثة قادرة على الانطلاق، نحو مؤسسات وأساليب إدارة جديدة، مع اهتمام واضح بالتعليم والخدمات العامة والدور الإسلامي والإقليمي للمملكة.
مرسوم الملك فيصل واليوم الوطني
بالرغم من الاحتفالات المبكرة، كان لإجراءٍ إداري لاحق أثر كبير في توحيد طريقة الاحتفال وموعده الرسمي؛ ففي العام 1965 أرسى الملك فيصل اليوم الوطني بصيغة رسمية، إذ تم ربط التاريخ بالشهر الميلادي المعلن، وجُعِل مناسبة سنوية موحدة تحت مظلة الدولة.
خطوة كهذه كانت ضرورية لتحويل ذكرى سياسية إلى تقليد رسمي، يتعامل معه الجهاز الإداري والثقافي في المملكة العربية السعودية كحدث سنوي له أبعاد رمزية ومؤسسية.
اقرأ أيضًا: حفلات اليوم الوطني السعودي الـ95 تكشف عن مفاجآت غنائية في مختلف المناطق
مظاهر الاحتفال.. من القوافل الشعبية إلى المهرجانات الوطنية
في العقود الأولى كانت الاحتفالات باليوم الوطني بسيطة ومحلية: مواكب فلكلورية، أهازيج وتجمعات مجتمعية تعبر عن الفرح بالوحدة، ومع توالي الزمن وتطور البنية الاقتصادية والاجتماعية للمملكة العربية السعودية، بدأت مظاهر الاحتفال تتسع لتشمل: عروضًا جوية، ومعارض ثقافية، واحتفالات فنية، وبرامج حكومية وخاصة متكاملة تستهدف جميع الفئات العمرية.
كما أن ظهور الهيئة العامة للترفيه في العام 2016، وبرامج رؤية 2030 أدخلا طابعًا تنظيميًا ومؤسسيًا لاحتفالات اليوم الوطني، فصارت الفعاليات مخططـة ومقاسة بالأداء، بينما المنصات الرقمية أعطت الاحتفاء انتشارًا محليًا وعالميًا.
ويمكن الإشارة إلى عدة محطات فارقة في هذا الصدد، منها: قرار عام 2005، الذي منح البلاد إجازة استثنائية بمناسبة اليوم الوطني الـ75، وكان علامة فاصلة في تعزيز طقوس الاحتفال الرسمية، إذ تحول الحدث إلى مناسبة وطنية يحتفى بها على نطاق واسع، مع إيقاف العمل في القطاعين العام والخاص لأيام محددة في تلك المناسبة.
كما جاء احتفال عام 2019 باليوبيل المئوي ليطرح قراءة تاريخية أعمق لمراحل تشكل المملكة العربية السعودية وإنجازاتها، بينما فرضت جائحة كورونا في 2020–2021 تحولاً رقميًا اضطراريًا، حيث انتقلت الكثير من الفعاليات إلى منصات افتراضية حفاظًا على السلامة العامة، ما أدخل بعدًا جديدًا في طرق الاحتفال والمشاركة الجماهيرية.
اليوم الوطني.. احتفالات تعزز الاقتصاد والانتماء
لم يعد اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية مجرد مناسبة رمزية؛ بل أصبح قطاعًا اقتصاديًا بحدّ ذاته، حيث إن تراخيص الفعاليات، وشركات الإنتاج، والمبيعات الموسمية، وتطوير هوية بصرية سنوية، كلها عناصر تحقق قيمة اقتصادية ملموسة.
وفي الأعوام الأخيرة رُخّصت آلاف المنشآت لتقديم فعاليات على مستوى المدن، وارتفعت معدلات الإنفاق السياحي والترفيهي، فيما لعبت المبادرات الرقمية دورًا مهمًا في ترويج الفعاليات وجذب الزائرين.
هذا التفاعل بين الثقافة والاقتصاد يتكامل مع أهداف رؤية المملكة 2030، التي ترى في الفعاليات الوطنية وسيلة لتعزيز جودة الحياة وتنشيط القطاعات غير النفطية.
تعمل فعاليات اليوم الوطني السعودي على ترسيخ القيم الوطنية في فئات المجتمع المختلفة، لا سيما لدى الطلاب والشباب، حيث إن الحملات التوعوية والبرامج المدرسية والمبادرات الثقافية، تشجع على الإبداع والابتكار وتسمح للمواهب الشابة بعرض مشاريعها الفنية والعلمية.
كما تستثمر الجهات الحكومية الفرصة لربط الاحتفال بموضوعات اجتماعية مهمة: دعم أصحاب الهمم، وتعزيز التلاحم الاجتماعي، وتشجيع العمل التطوعي، وكل ذلك يسهم في خلق مناخ مجتمعي يحتفي بالماضي ويبني الثقة نحو المستقبل.
"عزنا بطبعنا".. هوية تجسد القيم
تبنّت الهيئة العامة للترفيه هوية بصرية جديدة احتفالًا باليوم الوطني الـ95، تحت شعار "عزنا بطبعنا" أو "Pride in Our Nature"، وهي هوية تحتفي بالإنسان والطبيعة، وتستمد رموزها من الكرم والأصالة والطموح والتكافل والضيافة، مع تركيز مرئي على اللون الأخضر والأنماط التراثية والنقوش النجدية، إضافة إلى تخصيص رموز تمثل كل سمة وطنية.
وتم إطلاق الهوية رسميًا من قبل المستشار تركي آل الشيخ، ترافقها حزمة تحميلات ومواد إرشادية للاستخدام الرسمي من الجهات العامة والخاصة، مع دعوة لاستخدام الوسم الموحد #SaudiNationalDay95 في التواصل الرسمي.
هذه الهوية ليست شعارًا بصريًا فحسب، بل رسالة تربط بين التراث والمشروعات المستقبلية المعلنة ضمن رؤية السعودية 2030.
إطلاق الهوية الجديدة للـ #اليوم_الوطني_95 تحت شعار #عزنا_بطبعنا 🇸🇦❤️
حمّل الهوية وتطبيقاتها 👇https://t.co/9ds18pQyQ5 pic.twitter.com/E74E1ITnC2— TURKI ALALSHIKH (@Turki_alalshikh) August 4, 2025
واتجهت الجهات المسؤولة إلى اعتماد استراتيجيات متكاملة للاحتفال، تتضمن: فهم الجمهور المستهدف، واختيار نبرة تواصل مناسبة، وتحديد القنوات الرقمية والتقليدية، وتطوير تجربة المستخدم عبر جداول واضحة للتظاهرات والتذاكر الرقمية، وتحسين قنوات البيع والتشغيل، إضافة إلى قياس الأثر من خلال مؤشرات أداء تقيس الحضور والعوائد والتغطية الإعلامية.
وهذا المنهج المهني جعل من الاحتفال باليوم الوطني السعودي حدثًا منظمًا ومُدرَكًا اقتصاديًا واجتماعيًا في آنٍ واحد.
تعرّف على مواعيد ومواقع عروض طائرات #القوات_الجوية المشاركة في #اليوم_الوطني_95. #عزنا_بطبعنا pic.twitter.com/hSBhFNoE33
— وزارة الدفاع (@modgovksa) September 14, 2025
اقرأ أيضًا: "اليوم الوطني السعودي".. هكذا بدأت القصة
اليوم الوطني حافز لرفع جودة الحياة وتحقيق أهداف رؤية 2030
يضع برنامج جودة الحياة، الذي انطلق ضمن مشاريع رؤية 2030، من بين أهدافه تعزيز الثقافة والترفيه، وتنمية مساهمة السعوديين في الفنون، وتحسين المشهد الحضري، وتطوير قطاع السياحة.
ويعمل اليوم الوطني كمنصة سنوية لعرض ما تحقق من مشاريع مستهدفة، ولم شمل المبادرات التي ترتبط مباشرة بجودة حياة المواطنين والمقيمين، من الرياضات إلى الفعاليات التراثية إلى المعارض الدولية.
وقد بات اليوم الوطني السعودي أكثر من احتفال سنوي؛ إذا يمثل مرآة تتجدد فيها صورة وطن يوازن بإتقان ودقة بين أصالته وطموحه، حيث تظل الرسالة واحدة: بلدٌ يحافظ على جذوره بينما يخطو بثقة نحو المستقبل.
وفي كل عام يأتي يوم 23 سبتمبر ليتجدّد العهد: أن تكون المملكة العربية السعودية موطنًا للحياة الكريمة، والابتكار، والفخر الجماعي، الذي يولد من صميم المجتمع نفسه.
