المملكة تصنع اللاعبين والمصممين.. كيف تقود السعودية مستقبل الرياضات الإلكترونية؟
لم تعد الرياضات الإلكترونية مجرد تسلية، بل أصبحت اقتصادًا ضخمًا يتجاوز حجمه مئات مليارات الدولارات على مستوى العالم. لذلك، وضعت المملكة العربية السعودية الاستثمار في هذا القطاع الحيوي نصب أعينها، لما له من إسهام في تنويع مصادر الدخل، وتوفير فرص العمل للشباب السعودي.
واتجهت الأنظار في الآونة الأخيرة نحو السعودية لمتابعة أحداث كأس العالم للرياضات الإلكترونية، الذي تستضيفه المملكة للمرة الثانية على التوالي، في تجسيد لاهتمام الحكومة السعودية بقطاع الرياضة عمومًا والرياضات الإلكترونية خصوصًا، في إطار رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى تعزيز مكانة المملكة على خارطة الرياضات العالمية، وبالذات الرياضات الإلكترونية.
وتسعى السعودية لتكون مركزًا عالميًا بارزًا لصناعة الألعاب والرياضات الإلكترونية، على غرار اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، ولذلك تعمل على تطوير منظومة متكاملة لهذه الصناعة بناء على التجارب الناجحة عالميًا بهذا المجال.
كما لا يمكن عدم ملاحظة اهتمام المملكة بالرياضات الإلكترونية، حيث عقدت السعودية شراكة مع اللجنة الأولمبية الدولية مدتها 12 عامًا، تستضيف بموجبها دورة الألعاب الأولمبية للرياضات الإلكترونية عام 2025، ونسخ إضافية من الدورة في أعوام لاحقة.
السعودية تتصدر المشهد
وفي تظاهرة رقمية كبرى تعكس طموحات المملكة في تصدّر مشهد الألعاب الإلكترونية عالميًا، تحتضن السعودية النسخة الثانية من كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025، بمشاركة غير مسبوقة لأكثر من 2,000 لاعب يمثلون 200 نادٍ من أكثر من 100 دولة، يتنافسون في 25 بطولة على جوائز تتجاوز قيمتها 70 مليون دولار.
ويمتد الحدث الأضخم في تاريخ الرياضات الإلكترونية، لمدة 7 أسابيع داخل "بوليفارد سيتي" في العاصمة الرياض، ويتضمن 24 لعبة من أشهر الألعاب العالمية، إضافة إلى فعاليات جماهيرية وعروض تفاعلية، مما يعكس مواصلة السعودية تعزيز موقعها كمركز عالمي لاحتضان وتطوير صناعة الألعاب الإلكترونية، مدفوعة برؤية استراتيجية تستثمر في تمكين المواهب، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز بيئة الترفيه الرقمي، بما ينسجم مع مستهدفات رؤية 2030.
وتُقام النسخة الحالية تحت شعار "حلّق للقمة"، في تعبير عن الانتقال من مرحلة الانطلاق في النسخة الأولى إلى ترسيخ حضور المملكة كلاعب محوري في خارطة الرياضات الإلكترونية الدولية، وسط تصاعد الاعتراف العالمي بهذه الصناعة كأحد أبرز القطاعات الواعدة في الاقتصاد الرقمي.
بداية الرحلة
في سبتمبر 2022، أطلق صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد السعودي ورئيس مجلس الوزراء، استراتيجية للألعاب والرياضات الإلكترونية، كما أطلقت المملكة شركة "ساڤي" في يناير 2022، بهدف تطوير القطاع، والتحضير لبناء البنية التحتية الملائمة للألعاب والرياضات الإلكترونية، سواء عبر تنمية شركات محلية أو الاستثمار بشركات عالمية تعمل في هذا المجال.
في أكتوبر 2023 أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عن تنظيم المملكة لكأس العالم للرياضات الإلكترونية سنويًا بدءًا من صيف 2024، معتبرًا حينها أن بطولة كأس العالم للرياضات الإلكترونية هي "الخطوة الطبيعية التالية في رحلة السعودية لتصبح المركز العالمي الأول للألعاب والرياضات الإلكترونية".
وتستثمر المملكة 38 مليار دولار لتصبح مركزًا لهذه الألعاب، كجزء من جهودها لتنويع الاقتصاد بعيدًا عن النفط، وتعزيز جودة الحياة فيها، متطلعة لأن تكون هذه البطولات رافدًا رئيسيًا لتحقيق استراتيجية قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية التي تستهدف بلوغ مساهمة القطاع في الناتج المحلي أكثر من 50 مليار ريال بحلول 2030، وتوفير أكثر من 39 ألف فرصة عمل جديدة، وتحويل مدينة الرياض إلى عاصمة عالمية للألعاب الإلكترونية، بحسب تقرير شركة "برايت ووتر هاوس".
السعودية مستثمر نشط في صناعة الألعاب الإلكترونية
خطت المملكة العربية السعودية خطوات مهمة على طريق التحول إلى مستثمر نشط في صناعة الألعاب الإلكترونية، حيث قام صندوق الاستثمارات العامة السعودي بشراء حصص في "أكتيفيجن بليزارد" Activision Blizzard Inc و"إلكترونيك آرتس" Electronic Arts Inc، كما زاد الصندوق حصته في "نينتندو" Nintendo Co إلى 8.6%، ليصبح أكبر مساهم خارجي فيها.
وفي الوقت ذاته، اشترت "ساڤي" حصة في "إمبريسر غروب Embracer Group AB"، كما استحوذت على قسم الرياضة الإلكترونية في "موديرن تايمز غروب Modern Times Group" بقيمة 1.05 مليار دولار.
الأمر الذي أدى إلى تطور الألعاب الإلكترونية في السعودية إلى ما هو أبعد من مجرد هواية، فقد أصبحت صناعة ديناميكية تدفع عجلة الابتكار وترسم ملامح مستقبل المملكة.
الرياضات الإلكترونية.. استراتيجية وطنية
إن من بين أبرز وأهم مستهدفات الاستراتيجية الوطنية للألعاب والرياضات الإلكترونية، السعي للتأثير الإيجابي على المواطنين والمقيمين، وكذلك المهتمين بهذا القطاع على الصعيد العالمي من خلال التركيز على رفع جودة الحياة عبر تطوير تجربة اللاعبين، وابتكار فرص ترفيهية جديدة ذات قيمة عالية.
ويأتي اهتمام السعودية بالرياضات الإلكترونية كونها باتت تحظى بشعبية واسعة، خاصة في ظل التركيبة الديموغرافية الشابة للمجتمع السعودي، حيث يُشكل الشباب تحت سن 35 عامًا ما نسبته 89% من سكان المملكة، مما يعزز من رواج هذا النوع من الرياضات في المملكة، وفي ظل ذلك تُواصل السعودية تعزيز حضورها في هذا القطاع الديناميكي، مستندة إلى رؤية استراتيجية وطنية طموحة تسعى للتوسع في هذا النوع من الرياضات.
وتسعى المملكة إلى تحويل الشغف بالألعاب إلى فرص اقتصادية واجتماعية حقيقية، تواكب تطلعات الشباب وتدعم الاقتصاد الوطني في مسيرته نحو التنويع والاستدامة، خاصة وأن الاستراتيجية تستهدف توفير البيئة التأسيسية لتطوير الكفاءات والوصول إلى الريادة العالمية، كما تسعى إلى تعزيز مكانة السعودية عالميًا من خلال إنتاج أكثر من 30 لعبة منافسة عالميًا في استوديوهات المملكة، وأن تصبح السعودية من بين أفضل ثلاث دول في عدد اللاعبين المحترفين للرياضات الإلكترونية.
كما تركز المملكة على تطوير قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية من خلال إطلاق وتنفيذ 86 مبادرة استراتيجية بإشراف وتعاون 20 جهة حكومية وخاصة، تستهدف بناء منظومة متكاملة تدعم نمو هذا القطاع الواعد.
وتشمل المبادرات إطلاق حاضنات أعمال متخصصة، واستضافة فعاليات عالمية كبرى، وتأسيس أكاديميات تعليمية تعنى بتطوير الكفاءات، إلى جانب صياغة وتحديث لوائح تنظيمية محفزة تسهم في استدامة النمو وتحفيز الاستثمار.
الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية
منذ تأسيسه في عام 2017، يقوم الاتحاد السعودي للرياضات الإلكترونية بدور محوري، حيث يعمل بشكل مستمر على تطوير منظومة الألعاب والرياضات الإلكترونية في المملكة، بدءًا من تمكين اللاعبين على المستوى المجتمعي، وصولاً إلى إعداد رياضيين محترفين قادرين على المنافسة عالميًا.
كما ساهم الاتحاد في تحفيز القطاع، وجذب استثمارات نوعية من القطاع الخاص، وتنظيم بطولات وفعاليات محلية ودولية بمعايير عالمية، فضلاً عن شراكاته المثمرة مع مطورين دوليين للمساهمة في تطوير محتوى محلي سعودي يعكس هوية المملكة ويواكب تطلعات شبابها.
ويتعاون الاتحاد أيضًا مع مجموعة "ساڤي" لتصميم برامج تطوير وتدريب مرتبطة بالرياضات الإلكترونية، وقطاع الألعاب، في استديوهات ستير التابعة للمجموعة، لتدريب مواهب جديدة.
تنمية مهارات الشباب السعوديين
بجانب الإمكانات الاقتصادية، تتيح الرياضات الإلكترونية للشباب السعودي، الذي يعد عنصرًا أساسيًا في تشكيل مستقبل هذا القطاع، فرصًا لتطوير مهارات أساسية في التكنولوجيا والإعلام والاتصال والتعاون.
وبوجود أكثر من 23 مليون لاعب، حقق قطاع الرياضات الإلكترونية إيرادات بلغت 1.13 مليار دولار عام 2023، ومن المتوقع أن يصل إلى 13.6 مليار دولار بحلول عام 2026، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 6%، بحسب تقرير صناعة الألعاب الإلكترونية في المملكة العربية السعودية 2025.
وأظهر التقرير استحواذ النساء في المملكة على حصة بلغت 20% من إجمالي عدد لاعبي الرياضات الإلكترونية، مع العلم أن المتوسط العالمي يبلغ 5%.
ويجسد نجاح المواهب السعودية في الرياضات الإلكترونية إمكانات المملكة، حيث تُبرز الانتصارات الأخيرة في هذه الرياضات القدرات الاستثنائية للشباب السعودي، كما تُزوّد أكاديميات المواهب والبطولات المُخصصة للشباب الجيل القادم بالأدوات اللازمة للنجاح في بيئة عالمية تنافسية، وتضمن هذه المبادرات استمرار ازدهار منظومة الألعاب في السعودية، مهيئة بيئة يلتقي فيها الشغف بالهدف.
السعودية عاصمة عالمية للرياضات الإلكترونية
استطاعت السعودية أن تحجز مكانها كلاعب عالمي في مجال الألعاب الإلكترونية والرياضات الإلكترونية، مستفيدة من شبابها وبنيتها التحتية واستثماراتها الاستراتيجية، حيث تُبرز مبادرات مثل كأس العالم للرياضات الإلكترونية ودورة الألعاب الأولمبية للرياضات الإلكترونية 2025 التزام المملكة بأن تصبح مركزًا للتميز في الرياضات الإلكترونية.
وتتجاوز رؤية السعودية في مجال الألعاب نطاق الرياضات الإلكترونية، ويعزز استعداد المملكة لاستضافة كأس العالم لكرة القدم عام 2034 حضورها في ساحات الألعاب والرياضة العالمية، وتُبرز هذه المبادرات جدية المملكة والتزامها بدفع عجلة النمو في هذا القطاع، مع تعزيز التفاعل بين الثقافات والابتكار.
كما أن استضافة المملكة لهذه البطولات تمثل فرصة استراتيجية لتوجيه طاقات الشباب نحو مسارات مهنية مستقبلية، في مجالات تصميم وتطوير الألعاب، والبث الرقمي، وتنظيم الفعاليات، إضافة إلى فرص التعليم والتدريب عبر شراكات دولية.
وباتت بيئة المملكة خصبة لنمو صناعة الألعاب الإلكترونية، بدعم حكومي واسع، واستثمارات متزايدة من القطاعين العام والخاص، وهو ما يعزز من بناء اقتصاد رقمي قائم على الابتكار والمعرفة، ويؤكد على أن السعودية تسير بثبات نحو أن تصبح عاصمة عالمية للرياضات الإلكترونية، ووجهة محورية لصناعة المستقبل الرقمي.
