محمد النغيمش يكتب: سوء الفهم يتجدّد
تعرض زوجان من السويد لمقلب لا يبدو أنهم سينسونه. ففي عام 2009، ضلّا طريقهما إلى الجزيرة الإيطالية كابري Capri. وبعد ساعات من قيادة السيارة في بلد غريب عنهما، وجدا نفسيهما يسيران في الاتجاه الخطأ، حيث توجها إلى بلدة أخرى تحمل اسماً شبيهاً، وهو كاربي Carpi، وتبعد عن الجزيرة المقصودة نحو 650 كيلو متراً. السبب كما تبين لاحقاً، هو سوء فهم ليس بشرياً، كما جرت العادة، بل إلكتروني، سببه استخدام تطبيق نظام الملاحة "جي بي إس" المثبت في سيارتهما، وفق ما ذكرت "بي بي سي". ومشكلة سوء الفهم في حديثنا إلى الآخرين، تتفاقم عندما نبي عليها قراراً، أو نهدر ساعات طويلة في عمل نكتشف لاحقاً، أنه مختلف كلياً عن المطلوب.
وقد حدث معي الأمر نفسه، عندما لفظت شفاهة "منطقة النزهة" الشهيرة في الكويت، عبر نظام التعرف الصوتي، ثم اخترت المنطقة الظاهرة، فانطلقت أتتبّع تعليمات تطبيق الملاحة (خرائط غوغل)، ثم اكتشفت أن سيارتي قد اتجهت جنوباً باتجاه المملكة العربية السعودية! والمشكلة كانت أن نظام التعرف الصوتي، قد اختار لي منطقة مختلفة ظننت أنها الوجهة الصحيحة.
أياً كان منشأ سوء الفهم، بشرياً أم إلكترونياً، فهو يسبب مشكلة كبيرة في حياتنا. ولذا كان من أبجديات التفاهم، إعادة السؤال بوضوح، أو الجملة المسموعة، خصوصاً إذا كان الموضوع حرجاً أو مهماً. وهذا ينفى أي محاولة لسوء الفهم وتداعياته.
مشكلة التداعيات تكمن في أن كلمة مبهمة، قد تشعل حرباً ضارية بين الدول أو الأفراد، في نزاعاتهم الاجتماعية لا تنتهي، خصوصاً إذا كانت مبتورة، عبر رسالة نصية أو صوتية تُتبادل في التطبيقات. فأكثر ما يولد سوء فهم الرسالة، عندما تكون مجتزأة من سياقها الصحيح context. ، والأسوأ استعجال الحكم على صاحبها، على طريقة "ولا تقربوا الصلاة"؛ وننسى تكملة الآية الكريمة "وأنتم سكارى". ولذا قيل إن "معظم النزاعات تنبع من سوء فهم ضُخّم".
وفي بعض الأحيان، حتى لحظات الصمت يساء فهمها. فليس صحيحاً أن "السكوت علامة الرضا" كما تقول العرب. فهناك من يؤوّل سكوتنا وصمتنا "على مزاجه". وهناك فارق بين السكوت والصّمت. فالسّكوت مؤقت، مثل الآية التي تقول "وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ"، أي بُعَيدَ لحظات من الغضب توقف. أما الصّمت فأطول قليلاً، ولذا قيل "صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ" في الحديث الشريف؛ وهذا يعني كراهة الصّمت الطويل، كما كان مشروعاً للأمم السابقة (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً) أي صمتاً، كما قالت مريم بنت عمران.
وبطبيعة الحال كلما زاد صمت المرء في عصرنا، صار أكثر عرضة لإساءة فهمه، خصوصاً أولئك الذين يعتقدون أن الحل في ميدان العمل، بالتواري خلف صمتهم، لتقليل المواجهات، لكن بعضهم قد يرى ذلك هروباً، أو عدم مبالاة، أو افتقاراً لشجاعة المواجهة، أو قبولاً بأن يأخذ أحد حقنا في وظيفة أو مهمة. وهذا ما يجعل حسن الظن، في معظم الثقافات العالمية، فضيلة محمودة، لأنها تدفع صاحبها إلى النظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس.
والمتأمل لسوء الفهم، يجده في تجدد دائماً، فقد انتقل من الإنسان إلى الآلات، وربما حتى الذكاء الصناعي مستقبلاً، وهو ما يوجب الحذر.
ما يهمنا سوء الفهم بين شخصين، لأنه يحمل مشاعر هائلة من الضغينة أو الغضب الذي سرعان ما تثور ثائرته. ولذا يقول المثل الإنجليزي "أسوأ مسافة بين شخصين هي سوء الفهم".