رحلة إلى أبرد نقطة في الكون.. استكشاف مفهوم الصفر المطلق
هل تساءلت يومًا عن أدنى حدٍّ للحرارة يمكن الوصول إليه؟ ماذا عن مفهوم "درجة الحرارة" نفسه، هل تفهمه حقًا؟
تتقاطع هذه الأسئلة مع مفهومٍ غاية في الأهمية يُعرف بالصفر المطلق "Absolute Zero".
في رحلتنا اليوم، سنغوص في أعماق هذا المفهوم النظري، ونكتشف: ما هو الصفر المطلق؟ ما أهمية تحقيقه أو الاقتراب منه؟ هل الوصول إليه ممكنٌ من الأساس؟ ما هي تطبيقاته العملية؟
ما هو الصفر المُطلق؟
الصفر المطلق أو Absolute Zero هو أقل درجة حرارة يمكن تصورها، وهي درجة حرارة حيث تكون جميع الحركة الحركية للذرات تقترب من الصفر تمامًا، أي لا يوجد أي نشاط حركي في الذرات.
يُقاس الصفر المطلق بوحدة الكلفن (0K)، وتساوي سالب 273.15 درجة مئوية أو سالب 459.67 درجة فهرنهايت.
في حالة الصفر المطلق، تكون جميع الذرات في الجسم توقفت تمامًا عن الحركة، وهذا يعني عدم وجود أي طاقة حركية تتمثل في الاهتزازات الذرية.
هذا المفهوم مهم جدًا في الفهم العميق للطبيعة الأساسية للحرارة والطاقة، ويوفر أساسًا لفهم الظواهر الفيزيائية المختلفة عند دراسة الحرارة والديناميكا الحرارية.
ليس توقفًا مُطلقًا
توقعت النظرية الحركية الكلاسيكية أن تتوقف حركة الجزيئات تمامًا عند بلوغها الصفر المطلق، أدنى حدٍّ نظري للحرارة.
لكن التجارب العملية أثبتت عكس ذلك، ففي هذا الحد، تمتلك الجزيئات أقل كمية ممكنة من الحركة، أي أنها تكون بالكاد تتحرك وطاقتها تكاد تكون معدومة.
لماذا نسعى للوصول إلى الصفر المطلق؟
تُعدّ دراسة الصفر المطلق ذات أهمية علمية هائلة، حيث تُتيح لنا فهم قوانين الفيزياء في أقصى درجاتها من الدقة، ودراسة سلوك المواد في ظلّ غياب الحركة الجزيئية، وتطوير تقنيات جديدة ذات تطبيقات واسعة النطاق.
اقرأ أيضًا: كسوف الشمس 2024.. العالم على موعد مع الظلام
ما أهمية الوصول إلى درجة الصفر المطلق؟
الموصلات الفائقة Superconductors
في عالمٍ غامضٍ عند أدنى درجات الحرارة، تتحول بعض المواد إلى موصلات فائقة، حاملةً صفةً خارقةً تجعلها تسمح بتدفق التيار الكهربائي دون أي مقاومةٍ تُذكر.
ففي هذه الحالة الاستثنائية، تُصبح المقاومة الكهربائية للمواد قريبةً من الصفر، مما يسمح للتيار بالانسياب بحريةٍ تامة، وكأنّه يتدفق في نفقٍ فارغٍ من أي عوائق.
تُعدّ الموصلات الفائقة بوابةً إلى عالمٍ من التطبيقات الثورية، نذكر منها أجهزة الرنين المغناطيسي (MRI)، والقطار المغناطيسي المُعلق (Maglev).
الحواسيب الكمومية Quantum computers
تُعدّ الحواسيب الكمومية حلمًا علميًاً يُراود العلماء منذ عقود، حيث تُمثل وعدًا بحلّ المسائل المعقدة التي لا تستطيع الحواسيب التقليدية حلّها.
وتعتمد هذه الحواسيب على مبدأٍ ثوريٍّ يُعرف باسم "البت الكمي" أو "qubit"، والذي يُمكنه أن يكون في حالةٍ من "التراكب الكمي" حيث يتواجد كلٌّ من "0" و"1" في نفس الوقت.
ولكن تحقيق هذه المعجزة يتطلب تبريدًا هائلًا، حيث لا تعمل الحواسيب الكمومية بشكلٍ فعّالٍ إلا عند درجات حرارةٍ مُقاربةٍ للصفر المطلق.
التبريد العميق Cryogenics
يُعدّ علم التبريد العميق "Cryogenics" تقنيةً تُستخدم لحفظ المواد الحيوية، مثل الأعضاء البشرية وأنسجتها، عند درجات حرارةٍ مُنخفضةٍ للغاية، ممّا يُحافظ على سلامتها ووظائفها حتى تصبح صالحةً للاستخدام.
وتُستخدم هذه التقنية في العديد من المجالات، منها "الجراحة البردية Cryosurgery"، التي تُعدّ تقنيةً علاجيةً تُستخدم فيها درجات الحرارة المنخفضة للغاية لعلاج بعض الأمراض، مثل الأمراض الجلدية، وبعض أنواع السرطان.
ولكن الوصول إلى الصفر المطلق عمليًا أمرٌ صعب للغاية، فكلّما انخفضت درجات الحرارة، ازدادت صعوبة تبريد المواد، والسؤال هو:
هل وصلنا للصفر المطلق من قبل؟
على المستوى النظري فإن الوصول إلى هذا المستوى من البرودة ممكن، ولكن عمليًا فالأمر مستحيل، على الأقل إلى الآن.
أفضل محاولاتنا للوصول إلى الصفر المطلق كانت في عام 2003 عندما استطاع باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) أن يصلوا إلى 0.45 نانو كلفن.
قبلها، كان الرقم القياسي 700 نانو كلفن على يد علماء من المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا (NIST).
يصل العلماء إلى درجات الحرارة المنخفضة هذه عن طريق العديد من التقنيات، أبرزها: التبريد بالليزر (Laser cooling) بترددات مُعينة على ذرات الغاز حتى يتم إبطاء حركتها أو طاقتها، وبالتالي درجة حرارتها.
ملحوظة: النانو كلفن هو جزء من مليار جزء من الكلفن
اقرأ أيضًا: هل نحن وحدنا بالكون؟.. الجوابان كلاهما مخيف!
ولكن لحظة.. من اكتشف الصفر المُطلق؟
في عام 1702، توصل المُخترع الفرنسي غيلوم أمونتونس Guillaume Amontons إلى أساسيات مفهوم الصفر المطلق.
أجرى أمونتونس تجاربًا أظهرت أن ضغط الهواء يتناسب طرديًا مع درجة الحرارة. واستنتج من ذلك أنه يجب أن يكون هناك قدرٌ أدنى من درجة الحرارة يكون الضغط عنده مُساويًا للصفر.
حتى أنه قدّر هذه الدرجة من الحرارة بسالب 240 درجة مئوية، وهو الرقم المُقارب للغاية من الرقم الفعلي للصفر المطلق.
لورد كلفن يُكمل مفهوم الصفر المطلق
في عام 1848، قام الفيزيائي الاسكتلندي الأيرلندي ويليام طومسون، والمعروف باسم اللورد كلفن، باستكمال ما بدأه أمونتونس. فقد توصل إلى ما أسماه بمقياس درجة الحرارة المطلقة، والذي يُمكن تطبيقه على جميع المواد.
يبدأ هذا المقياس بالصفر ولا يمكن أن يكون سالبًا مثل مقاييس فهرنهايت أو السيليزيوس. وُسميّ هذا المقياس "الكلفن" تيمنًا باللورد كلفن.
الجزء الأكثر برودة في الكون
تُدفء الطاقة التي خلّفها الانفجار العظيم الكون كله، وذلك منذ أكثر من 13.7 مليار سنة، لتبقيه فوق درجة الصفر المطلق.
يبلغ متوسط درجة حرارة الفضاء 2.74 كلفن، أي ما يُعادل سالب 454.7 فهرنهايت. ولكن، تُثير بعض الأجرام السماوية حيرة العلماء، حيث تتمتع بدرجات حرارةٍ أدنى بكثير من هذه القيمة.
أبردُ جسمٍ طبيعيٍّ في الكون
يُعدّ سديم بوميرانج "Boomerang Nebula" أبرد جسمٍ طبيعيٍّ في الكون، حيث تبلغ درجة حرارته 1 كلفن فقط. يُعزى هذه البرودة الشديدة إلى انبعاثه لجزيئات أحادية أكسيد الكربون في الفضاء، ممّا يُسبب تبريده بشكلٍ كبير.
التجارب العلمية أبردُ من الفضاء
على الرغم من برودة الفضاء، إلا أنّ التجارب العلمية تُتيح الوصول إلى درجات حرارةٍ أدنى بكثير، ففي تجربة "مختبر الذرة الباردة" على متن محطة الفضاء الدولية، استطاع العلماء الوصول إلى درجات حرارةٍ أقل من درجة حرارة المساحات الفارغة في الفضاء بـ30 مليون مرة.
ويُمثل الصفر المطلق أدنى حدٍّ نظري للحرارة، وعند الوصول إليه، تصبح حركة الجزيئات والذرات تكاد تكون منعدمة، وفي هذه الحالة، تُصبح "الإنتروبيا Entropy" (مقياس الفوضى في الكون) في أدنى مستوياتها.
يعتقد بعض العلماء بوجود أكوانٍ متعددةٍ غير كوننا، حيث تُعدّ درجة حرارة الصفر المطلق هي الشيء المُعتاد فيها، ممّا يعني اختلاف القوانين الفيزيائية بشكلٍ جذريٍّ عما نعرفه.