قصة هيرو أونودا.. ضابط ياباني ظل مرابطًا 30 عامًا ولم يعلم بانتهاء الحرب!
قبل أن ننتهي الحرب العالمية الثانية بأقل من عام، وتحديدًا في ديسمبر 1944، كان ضابط الاستطلاع الياباني "هيرو أونودا" مُرابطًا بجزيرة لوبانغ الفلبينية بأوامر من قادته. تمر الشهور وتنتهي الحرب وتخضع اليابان والإمبراطور، و"أونودا" لا يُحرك ساكنًا ويأبى مغادرة الجزيرة. بيد أن قائده قد زرع فيه روح القتال والتضحية من أجل الوطن واعدًا إياه بأنهم سيبحثون عنه ليُعيدوه سالمًا غانما، وبيد أن "أونودا" ظل على العهد ورفض أن يتزحزح حتى بعد انتهاء الحرب، ولمدة 30 عامًا.
مهمة انتحارية
وُلِدَ هيرو أونودا في التاسع عشر من مارس 1922، وكأي شابٍ مُتقد بالحماس ويريد أن يخدم وطنه، جُنِّد في الجيش الإمبراطوري الياباني في عام 1940 وتم إرساله إلى مدرسة ناكانو، وهي منشأة تدريب في طوكيو مُتخصصة في إعداد وحدات القوات الخاصة "الكوماندوز" على أعلى المستوى بحيث يصبحون نُخبة النخبة. هناك تعلم "أونودا" فن حرب العصابات، أو الـ "guerilla warfare" كما تُسمى، إضافةً إلى جوانب من التاريخ والفلسفة، وبالتأكيد فنون الدفاع عن النفس.
في ديسمبر 1944، وعلى هامش الحرب العالمية الثانية الموجودة على الأبواب، تَقَرر تسخير مهارات المُلازم "أونودا" القتالية لخدمة أهداف الجيش الياباني في الفلبين. وبينما تستعد القوات الأمريكية لغزو المنطقة، يهبط "هيرو أونودا" على جزيرة لوبانغ بأوامر من قائديه.
بحسب تقرير أوردته مجلة "لوبوان- Le Point" الفرنسية، فمأمورية ذهاب "أونودا" إلى الفلبين قد بدأت باستدعاء الرائدين "يوشيمي تانيغوتشي" و"تاكاهاشي" له وإخباره بالتفاصيل، والتي كان من ضمنها أنه سيهبط مع عددٍ قليل من الرجال ليُنفّذوا أعمالاً تخريبية تُساعد الحامية اليابانية في المنطقة. ولعل الشيء الأكثر إثارة في الأمر كان خطاب الوداع الذي قاله القائد تانيغوتشي، حيث قال، بتصرف: "إياك والانتحار مهما يكن! قد تستمر مهمتك الوطنية إلى 3 أو 5 سنوات، ولكن مهما طال الزمن سنأتي للبحث عنك وننجدك. أي جندي معك هو تحت مسؤوليتك، قد تضطرون إلى تناول جوز الهند فأحيانًا لا يكون هناك طعام سواه. المهم ألا تنتحروا بطريقة اختيارية مهما طال الزمن أو اختلفت الظروف".
اقرأ أيضًا:عندما أذاعت شبكة CBS خبرًا زعزع أوصال الأمريكيين!
إنكار الواقع
بحلول الثامن والعشرين من فبراير 1945 كانت القوات الأمريكية قد غزت الأراضي اليابانية بالفعل وبدأت معركة "إيو جيما- Battle of Iwo Jima" (19 فبراير) التي تسببت في القضاء على معظم الجنود اليابانيين المدافعين عن الجزيرة؛ المُعظَم إما قُتِل أو أُسِر أو تشرذم.
في منتصف أغسطس كانت الحرب العالمية الثانية قد أوشكت على وضع أوزارها، وذلك على النقيض من جانب "أونودا" الذي كان قد بدأ في مرحلة الإحماء توًا. في ذلك الوقت كان "أونودا"، رفقة 3 جنود هُم: شيمادا وكوزوكا وأكاتسو، موجودين في جزيرة لوبانغ الفلبينية ويعيثون فيها الفساد ليزعزعوا الاستقرار ويدعموا الحامية المحلية ويزعزعوا نفوس العدو كما أُمِروا، ولكن كانت هناك مشكلة بسيطة: لم يكن هناك عدوٌ من الأساس!
أكتوبر 1945 كان التاريخ الذي سمع فيه الجنود الأربعة خبر استسلام بلادهم للمرة الأولى، وذلك عندما أشهرت خلية من الجنود المارقين المختبئين في الأدغال منشورات تُناشدهم بالنزول من الجبال. لم يكن ذلك المنشور الدليل الوحيد على انتهاء الحرب، حيث سقط منشور آخر من الجو احتوى على أمر بالاستسلام من جنرال ياباني يدعى "تومويوكي ياماشيتا"؛ بالطبع لم يكن من أونودا -الذي تدرب بمجال الدعاية- سوى أن تجاهل المنشورين بحجة أنهما مزيفان ومن باب الالتزام بالأوامر التي تلقاها قبل أن يحط على الجزيرة.
ليس هذا فحسب، إذ استمر "أونودا" وجنوده في شن حروب العصابات على أهالي جزيرة لوبانغ مُستفزّين قوات الشرطة المحلية والأمريكية للبحث عنهم. كانت الظروف قاسية جدًا في تلك الأثناء، إذ تعين على اليابانيين الأربعة سرقة الأرز من المحليين والاعتماد على ما تطرحه الغابة من موزٍ وجوز هند للبقاء على قيد الحياة، حتى أنهم كانوا يذبحون ما يمر أمامهم من حيوانات لكي يأكلوه. هكذا كانت تجري أيامهم؛ يُرهبون الأهالي ويسرقون الطعام ويهربون من دوريات الشرطة.
أونودا يستمر في تعنته
بالنسبة لأكاتسو "أحد الجنود المرافقين لأونودا"، وفي سبتمبر 1949 "أي بعد حوالي 4 سنوات من انتهاء الحرب"، بدأت الأمور تتخذ منحًى مُريبًا وبدأ الجندي المذكور يقتنع فعليًا بأن صفحة الحرب قد طويت فقرر الهرب. ظل "أكاتسو" شاردًا في غابات الفلبين لمدة 6 أشهر تقريبًا إلى أن قرر تسليم نفسه في عام 1950 والإدلاء ببعض المعلومات حول المجموعة.
بعد ذلك بعامين أُسقِطت منشورات جوية أخرى ووزِّعت على الغابة، ولكن هذه المرة كانت تحمل صورًا لعائلات "أونودا" وجنوده، إضافة إلى خطابات منهم تُخبرهم بأن الحرب قد انتهت، ولكن مرةً أخرى؛ يظن "هيرو أونودا" أنها مزيفة.
في عام 1954 فتح "أونودا" وجنوده النار على دورية كانت تبحث عنهم ليُرَد عليهم برصاصات تقتل الجندي "شيمادا"؛ الآن لم يتبق سوى "أونودا" و"كوزوكا"، اللذين -لسخرية القدر- فوتًا أحداثًا مهمة جدًا مثل الحرب الكورية، واغتيال جون كينيدي ومارتن لوثر كينج، وأزمة الصواريخ الكوبية، ودورة الألعاب الأولمبية، وبناء جدار برلين، وهبوط آرمسترونج على القمر، ومُعظم حرب فيتنام! كل تلك الأحداث بالنسبة لهم كانت "الحرب العالمية الثانية"!
اقرأ أيضًا:"جدار برلين".. ماذا تعرف عن الحاجز الذي حوّل ألمانيا إلى بلدين؟
أونودا يُفاجئ اليابان!
مع بداية السبعينيات كان "أونودا" و"كوزوكا" قد أمضيا على الجزيرة 25 عامًا تقريبًا، ومع دخول صيف ذلك العام، الأجواء لم تكن تُطاق، لا سيّما وأن حشرات الغابة قد نغّصت عيشتهم، ومع ذلك تحمّلا وظلّا على العهد.
في أكتوبر 1972 انطلقت دورية أخرى، للمرة التي لا نعرف كم، للبحث عن "أونودا" الذي لا يهدأ، ولكن كالعادة، يفر منها سالمًا ويُردَى الجندي الذي معه -هذه المرة كوزوكا- قتيلاً بعدما يُصاب بطلقتين.
عندما وصل خبر مقتل "كوزوكا" إلى السلطات اليابانية أُصيبوا بالدهشة، إذ كانوا يعتقدون أنه و"أونودا" قد قُتلا بعد مقتل "شيمادا" في 1954، أي منذ 20 عامًا تقريبًا، وحتى أنهم كانوا قد أعلنوا ذلك. جعل هذا الحادث السلطات اليابانية تُفكر: "أليس من الممكن أن يكون أونودا حيًا، ولكن كيف بحق السماء"؟.
عُمر مديد وموت هانئ
في عام 1974، أي بعد مرور حوالي 30 عامًا على انتهاء الحرب، سمع مغامرٌ ياباني يُدعى "نوريو سوزوكي- Norio Suzuki" بقصة "أونودا" وقرر الذهاب لجزيرة لوبانغ خصيصى للبحث عنه، وهو ما قد كان في 30 فبراير 1974.
عندما رأى "أونودا" سوزوكي كان قد قاب قوسين أو أدنى من إردائه قتيلاً، ولكن من حُسن حظ المغامر أنه درس "أونودا" جيدًا وسرعان ما ناداه باسمه قائلًا: "أونودا سان (كلمة يابانية للاحترام)؛ الإمبراطور والشعب الياباني قلقون عليك". ما أن سمع "أونودا" هذه الكلمات حتى خفض سلاحه وبدأ يستمع لـ"سوزوكي" الذي أكد له بأن الحرب انتهت منذ 30 عامًا وأن الوقت قد حان للعودة إلى الديار.
كما هو متوقع؛ أبى "أونودا" أن يعود قائلاً إن ذلك لن يحصل سوى بأمرٍ من قائده. عاد "سوزوكي" إلى اليابان حاملاً صورة "أونودا" كدليلٍ على أنه لا يزال حيًا، عرفت السلطات بذلك فجلبت القائد المعنيّ بالأمر؛ الرائد يوشيمي تانيغوتشي، والذي كان يعيش حياة رغيدة هادئة كبائعٍ للكتب، وأخبرته بالخبر السار.
في التاسع من مارس 1974 طار "تانيغوتشي" إلى جزيرة لوبانغ الفلبينية ليحقق الوعد الذي قطعه لـ"أونودا" منذ 3 عقود، كان اللقاء بين اليابانيين مؤثرًا لأبعد الحدود؛ انحنيا لبعضهما وأمر القائد تانيغوتشي أونودا بوقف القتال أخيرًا. لم يُصدَق "أونودا" ما حدث واستنكر العجز الذي أدى إلى هزيمة اليابان، وتساءل -بعد أن تذكر صديقيه اللذين قُتلا- عن سبب كونه على قيد الحياة.
وبعد قصة استمرت لـ 3 عقود، يعود "أونودا" إلى بلاده، إلّا أن بلاده لم تكن كما عرفها. المهم أن حشودًا بلغ عددها 8 آلاف مواطن ياباني استقبلت البطل الوفيّ "أونودا" في مشهد مهيب تم بثه مباشرة بهيئة الإذاعة اليابانية "NHK". وعلى الرغم من أن اليابان كانت في حالة يُرثى لها، على المستوى الاقتصادي تحديدًا، فإن "أونودا" قد أعاد إحياء ذكرى الطقوس اليابانية النبيلة من شجاعةٍ ووفاء وتضحية.
ورُغم استقبال الأبطال الذي حظيّ به، فإن الأيقونة اليابانية لم يقوَ على تحمل الوضع الذي آلت إليه بلاده فقرر الخروج منها مرةً أخرى، ولكن هذه المرة إلى البرازيل حيث عاش حياةً هانئًا كمربٍ للماشية. تمر الأيام ويقرأ "هيرو أونودا" خبر قتل والديه فيقرر العودة لأرض الساموراي في عام 1984، حيث تزوج وأنشأ مدرسةً للمغامرين وعاش حياة سعيدة إلى أن توفي في 2014 بعد عمر مديد استمر لـ 91 عامًا.
المصادر: 1، 2، 3