ارحمنا يا "سيد كلام"
سلمان الدوسري*
في كل مجلس ومجتمع نجده حاضراً. يستحوذ على الحديث ولا يسمح لغيره بجزء يسير. يقاطع حديث الكل، بينما استحالة أن يقاطعه أحد أو حتى يصحّح له. ينظّر في السياسة والاقتصاد والفن والثقافة والرياضة. قادر على إطلاق الفتاوى ويحرم ويحلل. يتحدث دائماً عن نفسه وتجاربه وأطروحاته. من يتوقع أنه سيتوقف بعد حين عن الحديث سيكون مخطئاً. لا يوقفه إلا مغادرته المكان أو رحيل الحضور. أما أولئك المحترمون المنتظرون لفرصة قول نصف كلمة، فيا للأسف السيد كلام لن يمنحكم هذه الفرصة ولو انتظرتم ساعات وساعات.
متى كان عدد الكلمات مقياس النجاح أو الإقناع؟ ربما وجدت من يقنعك وتعجب بحديثه وهو لم يتفوّه سوى بكلمات معدودة، لكنها كافية لإيصال الفكرة بوضوح وسهولة، والعكس صحيح مع السيد كلام، مع إصراره على أن يعيد الجملة أكثر من مرة، و"يلتّ ويعجن" ويرفع صوته باستمرار، لضمان عدم قدرة أحد على مجاراته، وفي نهاية الأمر يتمنّى الحاضرون لو أنهم لم يحضروا أصلاً، في ظل سيطرة كلامية كاملة على مجريات الحديث.
بالطبع لا يمكن أن تقنع "السيد كلام" بأنه يتحدث أكثر من المعتاد، أو عليه منح الفرصة لغيره. فأنت بهذا الفعل كمن يؤذّن في مالطا.
تشير دراسة متخصّصة إلى أن الأشخاص الذين يتحدثون كثيراً عن أنفسهم، أكثر عرضة للاكتئاب. ويذكر موقع "ميديكال ديلي" العلمي الأمريكي أن الباحثين في جامعة كاسيل الألمانية، وجدوا أن الأشخاص الذين يردّدون كثيراً كلمة "أنا" و"نفسي"، هم أكثر عرضة للاكتئاب والقلق، من الذين يكرّرون كلمة "نحن".
أنا شخصياً غير مقتنع بهذه الدراسة، فالسيد كلام حاضر بيننا ونعرفه جميعاً، ومنذ نشأ وهو يتحدث عن نفسه ولا يعرف "نحن"، لكنه لم يتعرض للاكتئاب أو القلق مطلقاً.
ولأن حزب "السيد كلام" لا تقتصر عضويته على العامة، فالسياسيون أيضاً لهم ممثلوهم في هذا الحزب. فالمبعوث الهندي للأمم المتحدة كريشنا مينون، ألقى خطاباً عام ١٩٥٧، بشأن منطقة كشمير، وكاد الخطاب أن يتسبب في وفاته، وذلك نتيجة انهيار المسؤول الهندي، بعد الانتهاء من الخطاب الذي استغرق ثماني ساعات، والذي يعدّ أطول خطاب في تاريخ مجلس الأمن، وقد فقد مينون وعيه قبل الانتهاء من الخطاب، ونقل إلى المستشفى لتلقي العلاج، لكنه عاد ليستأنف الخطاب لساعة أخرى. أما الزعيم الكوبي فيديل كاسترو ففي أول خطاب يلقيه في الأمم المتحدة استمر يخطب في الحاضرين، لمدة أربع ساعات ونصف الساعة. ما أتعسهم من سياسيين، طالما كانوا أعضاء فاعلين في حزب الكلام.
يقول أرسطو: التميّز ليس فعلاً، بل هو عادة باعتباره خلاصة مانقوم به، مراراً وتكراراً. أما السيد كلام، فيظن أنه يتميّز بهذه القدرة الكلامية التي لا ينازعه فيها الآخرون. الحقيقة أنها عادة قبيحة وليست جميلة، فلماذا يتمسك بها؟ ألا تلاحظون أن المبدعين دائماً يتحدثون قليلاً، بينما "الهذارون" يخطئون كثيراً؟! الناجحون والمتميّزوين لا يعتمدون على المعارك الكلامية، للمرور إلى ساحة الإبداع. تركوها لغيرهم من حزب السيد كلام، يعيثون فيها فساداً كما أرادوا.
رئيس تحرير صحيفة الاقتصادية ومجلة الرجل